ثمة إجماع عام في السوق على أنه بعد قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة خلال ديسمبر، فإن ذلك سيؤدي لصعود الدولار إلى قمم جديدة مع تراجع اليورو أمامه، وهي حالة شهدناها آخر مرة عام 2000 عندما كانت فقاعة تكنولوجيا المعلومات الشغل الشاغل للعالم. لكن من ناحية أخرى، ثمة سبب وجيه للتشكيك قليلاً في هذه التوقعات؛ فصحيح أن الدولار سجل بالفعل قمماً جديدة خلال اليوم الأول على بدء خمس من أصل الدورات الست الأخيرة لرفع أسعار الفائدة، غير أن قوة الدولار تكون في العادة متناسبة عكسياً مع وجهة أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.
موقع الدولار
يرجع هذا التشوّش إلى موقع الدولار بصفته عملة الاحتياطي العالمي؛ إذ إن كميّة الدولارات المتداولة خارج الولايات المتحدة تفوق ما يتم تداوله داخلها. وعندما يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة، فإن ذلك يؤدي تلقائياً إلى انخفاض احتمالات النمو الاقتصادي في بقية أنحاء العالم.
ومن أجل تصحيح هذا الأمر يجب إضعاف الدولار بهدف إعادة التوازن، إذ ترتفع قيمة العملة مع انخفاض تكاليف صرفها في الوقت عينه، وبالتالي تنشأ نقطة توازن جديدة.
واليوم يعيش العالم حالة غير مسبوقة من الإدمان على الدولار، وأنا أدعو ذلك ب«الاقتصاد الأولي»، وهو نموذج لا يستفيد فيه أي كان من ازدياد قوة الدولار، حتى المصرف المركزي الأوروبي أو أوروبا بشكل عام.
فعلى الصعيد العالمي يتم الاحتفاظ ب70% من إجمالي احتياطات صرف العملة الأجنبية بالدولار، وكانت نسبة الديون التي تم إصدارها بالدولار خلال الأيام الأولى من الأزمة المالية عام 2007 /2008 تتراوح ما بين 60% إلى 70%. كما يجري تداول أغلب السلع بالدولار، بالإضافة إلى أن معظم الأصول والمسؤوليات والتدفقات النقدية يتم احتسابها بالدولار في الواقع.
وتنخفض أسعار السلع مع ارتفاع قيمة الدولار، ويؤدي انخفاض أسعار السلع بدوره إلى إضعاف الأسواق الناشئة وصادرات الدول المنتجة للطاقة، وهو ما يسفر عن تقليص وارداتها (أي صادرات الولايات المتحدة وأوروبا)، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى انخفاض الفائض الذي طالما مكّنها من الاستثمار في الأصول الأمريكية.
وعلى العموم، لطالما استخدمت الصين والدول المصدّرة للطاقة أرباحها للاستثمار في الولايات المتحدة، وفي أوروبا إلى حد ما. وتشير الدراسات الأكاديمية إلى أن هذا التوجّه لعب دوراً مهماً في إبقاء أسعار الفائدة العالمية عند مستويات أقل بنحو 100 نقطة أساس مما يكون الوضع عليه في حال عدم حدوث السيناريو المذكور أعلاه.
لذلك فإن السعر الحالي للفائدة، وسعر الدورة السابقة، يعتبر أخفض ب1% مما كان ليكون عليه إن لم يوجد هذا «المال غير المستقرّ» من الشرق الأوسط والنروج والصين.
ازدياد قيمة المال
ولعل الحقيقة اللافتة في رفع أسعار الفائدة هذا العام هي أن قيمة المال ازدادت منذ الآن بمقدار يفوق 100 نقطة أساس، وقد ارتفعت قيمة السندات بنحو 700 نقطة أساس أو تضاعفت أسعارها لتصل إلى 1400 نقطة أساس منذ نهاية الدورة الحالية للأسعار في يونيو/يوليو 2014. وفي الوقت ذاته ارتفع أخفض التصنيفات الاستثمارية (وهو BBA) بمقدار 100 نقطة أساس، أو 1% من الأرباح.وواصل سعر الدولار السير صعوداً لمدة 18 شهراً تقريباً قبل أن يتدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي للمرة الأولى، وقد أدى هذا الارتفاع إلى اكتساب الدولار لقوّته الحالية، وكان طوال السنوات الثلاث الماضية بمثابة «نداء الهامش» القوي للديون المحتسبة بالدولار، مما أثّر بشكل رئيسي على الاقتصادات الأكثر اعتماداً على الدولار.
ومن شأن ارتفاع قيمة الدولار أن يخفّض معدلات النمو وأسعار السلع، ويزيد أعباء سداد الديون العالمية التي تم اقتراضها منذ بدء الأزمة المالية، والتي تعادل قيمتها 57 تريليون دولار. ورغم أن معدلات النمو كانت محدودة منذ بدء الأزمة، إلّا أن ما شهدناه من نمو تم تمويله بشكل رئيسي باستخدام الديون منذ الواقع غير المسبوق الذي تم تسجيله على صعيد الإنتاجية والابتكار، بالتزامن مع انخفاض معدلات النمو السكاني في أنحاء مختلفة من العالم. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن العاملَين الأكثر أهمية في توجيه النمو الاقتصادي هما الإنتاجية وحالة النمو السكاني.
وقد تعامل العالم مع التباطؤ الاقتصادي الكبير وتراجع ثقة المستهلكين من خلال خفض أسعار الفائدة بهدف إتاحة «مال رخيص»، ولكن المشكلة أن هذا النوع من المال يؤدي إلى توزيع الموارد بشكل خاطئ، ناهيك عن كونه يمثّل هيكلية تحفيزية غير سليمة نظراً لبعدها عن الاستثمارات، مما يؤثر سلباً على الإنتاجية.
تطبيع السياسات النقدية
والآن نعيش مرحلة يوشك فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على بدء عملية «تطبيع» للسياسات النقدية، ومن المرجح أن يحدث ذلك خلال لقائه في ديسمبر/كانون الأول أو في الربع الأول من عام 2016. وسيتم إجراء عملية «التطبيع» على أرض الواقع عن طريق رفع أهم أسعار الفائدة التي تعود للاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعني اقتراب نهاية مرحلة أسعار الفائدة المنخفضة وعدم إمكانية توقع المزيد منها مجدداً.
ويؤكد الكثيرون أن السوق قادرة على التعامل مع ارتفاع أسعار الفائدة التي لن تتجاوز 25 أو 75 نقطة أساس بالمجمل خلال العام القادم، ولكن اسمحوا لي بأن أعبر عن قلقي حيال هذا الوضع. حيث عاصرتُ خلال مسيرتي المهنية ثلاث مرّات قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، بينما لم يسبق ل70% إلى 80% من المتداولين في المراكز المالية حول العالم أبداً أن شهدوا عملية رفع لأسعار الفائدة أو تداولوا أثناء إجراء إحداها. وبناءً على خبرتي، أنا لست واثقاً من أن الأمور ستسير بالسلاسة التي يتحدّث عنها الكثير من المعلّقين، أو كما تعتقد البنوك المركزية. ومن الأهمية بمكان مراجعة البيانات التاريخية قبل البدء الفعلي للعملية، وهو ما سيعيدنا مجدداً إلى العلاقة العكسية بين الدولار وأسعار الفائدة، مع افتراض أن الدولار سيصل إلى قمة خلال ديسمبر ليزوّد الاقتصاد العالمي بالدفع المطلوب للتحرّك.
وثمة حقيقة أخرى لا بد من التنويه إليها بخصوص رفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهي أن الأصول التي يُتوقع لها أن تحقق أعلى الإيرادات تتمثّل في....السلع والأسواق الناشئة! ولكن ثمة جانباً آخر للموضوع، وهو أنه في حال لم تنخفض قيمة الدولار، فإننا نعلم بالتأكيد أن النتيجة ستكون ركوداً عالمياً وهبوطاً لأسعار السلع وتضخماً ونداء هامش آخر، علماً أن التأثير هذه المرة سيطال الاقتصاد العالمي بأسره وليس فقط الأسواق الناشئة.
عن "الخليج الاقتصادي"