وكالات-الاقتصادي- إذا تربى طفلان في الظروف نفسها بمدينتين إحداهما حارة وأخرى باردة فهل تختلف شخصيتاهما؟
إذا كنت من محبي السفر والتنقل بين المدن المختلفة، هل لاحظت تشابها في الطباع الشخصية بين شعوب المناطق الدافئة؟ ماذا عن شعوب المناطق الباردة؟ نكون أحيانا صورا نمطية عن بعض الشعوب؛ فنقول عن شعوب معينة إنها متحفظة وباردة مثل درجات الحرارة المنخفضة التي يعيشون فيها، وأخرى نعتقد أنها منفتحة ويتعامل أهلها بحرارة واضحة تأثرا بدرجات الحرارة المرتفعة حيث يعيشون. فهل هناك رابط علمي يربط بين درجات الحرارة وأثرها على طباع الشعوب؟
لنفترض مثلا أننا أخذنا طفلين في العمر نفسه ومن طبقات اجتماعية ومادية متشابهة، وجعلناهما يعيشان في أحياء متشابهة المظهر، ويحصلان على التعليم والرعاية الصحية نفسها، لكن أحد الطفلين سيعيش في مدينة باردة، والآخر في مدينة حارة، هل تختلف شخصيتاهما؟ هل تختلف حالتنا المزاجية مع اختلاف فصول السنة ودرجات الحرارة؟
وفقا لدراسة نشرتها مجلة "نيتشر" (Nature) العلمية، فإن من المرجح أن تختلف شخصيتا الطفلين، بحيث يكون الطفل الذي نشأ في منطقة أكثر دفئا أكثر انفتاحا وتقبلا من الآخر على المدى الطويل.
تغير السمات الشخصية باختلاف درجات الحرارة
عام 2017، نُشرت نتائج دراسة واسعة النطاق شملت سكان دولتين كبيرتين جغرافيا -لكنهما متميزتان ثقافيا- وهما الصين والولايات المتحدة، إذ استخدمت بيانات السكان من 59 مدينة صينية (5587 مواطنا) مقابل بيانات ما يزيد على 1.5 مليون مواطن أميركي، وكشفت التحليلات أن الأفراد الذين نشؤوا في مناطق ذات درجات حرارة أعلى سجلوا درجات أعلى في عوامل الشخصية المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية والاستقرار والمرونة مقارنة بأقرانهم الذين نشؤوا في درجات حرارة أدنى.
ورغم إشارة الدراسة إلى عدم وضوح أسباب اختلاف السمات الشخصية المختلفة عبر المناطق الجغرافية، فإنها وجدت أن الحرارة قد تكون عاملا بيئيا حاسما يرتبط بالأنماط السلوكية المعتادة للأفراد، وبالتالي أنواع شخصياتهم.
ولاستبعاد السببية العكسية -أي احتمالية أن يهاجر بعض الناس إلى المدن التي تعكس شخصياتهم- اقتصرت الدراسة على الأشخاص الذين قضوا طفولتهم في مسقط رأسهم، كما استبعدت بيانات الأشخاص الذين يحتمل أن يكون آباؤهم قد هاجروا إلى مدن معينة تناسب شخصياتهم ثم نقلوا سماتهم إلى أطفالهم، واقتصرت على أولئك الذين ولدوا في منطقة موطن أجدادهم.
مقارنات تتعلق بالتنشئة الاجتماعية
كما أُخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من المتغيرات الأخرى التي قد تؤثر على الشخصية، مثل الناتج المحلي الإجمالي للفرد، والكثافة السكانية، والعمر، والجنس، ومما يثير الاهتمام أن الباحثين حاولوا الأخذ في الاعتبار احتمالية الإصابة بالإنفلونزا، فهذا المتغير الأخير مرتبط بالسمات الشخصية بشكل أو بآخر، إذ يعتقد الباحثون أن معدل حدوث الإنفلونزا يرتبط بشكل ملحوظ بالاستقرار العاطفي والانفتاح على التجربة والشعور بالسعادة أيضا.
كشفت التحليلات متعددة المستويات (بعضها كانت تحليلات ذكية عبر تقنيات التعلم الآلي للأجهزة) عن أن الأفراد الذين نشؤوا في مناطق ذات درجات حرارة أعلى (أي أقرب إلى 22 درجة مئوية) سجلوا درجات أعلى في السمات الشخصية المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية (الودية) والاستقرار العاطفي، والنمو الشخصي والمرونة (الاستكشاف والانفتاح على التجربة) مقارنة بأقرانهم الذين نشؤوا في درجات حرارة أدنى.
ما علاقة درجات الحرارة بالرفاهية؟
ووجدت دراسة أجريت عام 2015، بعد متابعة الأشخاص نفسهم على مدى 4 سنوات، أن سمات الشخصية لا تؤثر فقط على التغييرات في الحالة المزاجية ومستوى الرفاهية الذاتية للفرد بمرور الوقت، بل أيضا في إحداث تغييرات في تشكيل شخصية الفرد.
علق آلان ستيوارت -أستاذ علم النفس في جامعة جورجيا- على هذه الدراسة في تصريحات لصحيفة "ذا واشنطن بوست" (The Washington Post) الأميركية، وقال إن هذا التساؤل حول إذا ما كان المناخ يتعلق بجودة الحياة الجسدية أو النفسية كان مطروحا منذ فترة طويلة، وتساءل: "هل المناخ يحدد الشخصية؟ لست متأكدا، لكن -من خلال بحثي الخاص- أعرف أن الطقس والمناخ يؤثران في الحالة المزاجية، وقد ينعكس هذا في بعض تقييمات الباحثين".
بينما رأى أستاذ طب الشيخوخة في جامعة ولاية فلوريدا، أنطونيو تيراتشيانو، أن البحث مهم، رغم تأكيده ضرورة التفريق بين تشكيل الشخصية والصورة النمطية، إذ قال إن "بعض الكنديين يعيشون في مناخ بارد، لكن هذا لا يعني أنهم أقل لطفا من الأميركيين".
ورأى أن مؤلفي الدراسة يرسمون خطا بين درجة الحرارة وتشكيل الشخصية، إذ يتفق مع مؤلفي الدراسة في أن "النمو في درجات حرارة قريبة من الراحة النفسية الفسيولوجية المثلى يشجع الأفراد على استكشاف البيئة الخارجية، وبالتالي التأثير على شخصياتهم"، وأنه من المنطقي أنه كلما كان الجو جيدا خارج المنزل، زاد احتمال خروجنا من المنازل في طفولتنا واللعب مع الأصدقاء واكتشاف المحيط.
لكن موقع "سايكولوجي توداي" (Psychology Today) العلمي أشار إلى دراسات أخرى بيّنت نتائج مختلفة؛ إذ وجدت دراسة أجريت على البالغين الأميركيين -عام 2016- أن درجات الحرارة فوق 21 درجة مئوية كانت مرتبطة بانخفاض الرفاهية الذاتية، أي انخفاض التأثير الإيجابي وزيادة التأثير السلبي والإرهاق، بينما تميل درجات الحرارة المنخفضة إلى زيادة الرفاهية.
كما وجدت دراسة أجريت في اليابان -عام 2013- أن ارتفاع درجات الحرارة ارتبط بانخفاض السعادة، وقد أجريت هذه الدراسة في نطاق تغيرت فيه درجات الحرارة من 5 درجات مئوية إلى 30 درجة مئوية، مما يعني أن المشاركين ربما عانوا من فصول شتاء معتدلة إلى حد ما، ثم فوجئوا بصيف حار بشكل غير مريح.
أثر الطقس الحار جدا أو البارد جدا
ورغم اختلاف النتائج في الدراسات سالفة الذكر، فإن هذه النتائج تشير إلى أن الطقس له تأثير على الحالة المزاجية، وبشكل عام يؤدي الطقس الحار جدا أو البارد جدا إلى زيادة شعور التعب والإرهاق، وقد يؤثر هذا الشعور في تشكيل وتطوير جزء من الشخصية.
لكن بعض الباحثين يجادلون بأن الاختلافات في السمات الشخصية المتعلقة بدرجة الحرارة قد تكون مفيدة للتكيف بالمعنى التطوري أي تساعد الناس على البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل وأنسب لدرجة الحرارة، مما يعني أن المستويات العالية أو المنخفضة من سمات معينة تتشكل لكونها أكثر ملاءمة لبيئات معينة، مثل تكوّن الشخصية الانطوائية في استجابة تكيفية للطقس البارد.