جنين- الاقتصادي- عبد الغني سلامه- مع أن صناعة الفحم معروفة لدى منطقة "يعبد" منذ زمن قديم، إلا أنها أخذت تتوسع منذ منتصف الثمانينيات، وهي الآن تشكل مصدر دخل رئيسي للبلدة، وتستوعب نسبة كبيرة من القوى العاملة فيها، إلا أن التوسع الحاد والعشوائي لهذه الصناعة قد أدى إلى مضاعفات بعيدة الأثر من النواحي البيئية والصحية.
التأثيرات البيئية والصحية لصناعة الفحم
يحرق في مشاحر "يعبد" أكثر من 100 ألف طن حطب سنوياً، ينبعث منها كمية هائلة من الغازات والرماد تترك تأثيرات بيئية وصحية بالغة الخطورة. وحسب ما يقول الدكتور "محمد التكفجي" مدير صحة جنين، فإن الضرر الرئيسي على صحة الإنسان من استنشاقه للغازات المنبعثة من المشاحر التي تسبب أمراض تنفسية، وقد تؤدي إلى التسمم الحاد والصداع والدوخة والغثيان، وفي حالة ارتفاع تركيز الغازات واستمرار تعرض الجسم لها فإنه يؤدي لعوارض مزمنة، مثل ضعف الذاكرة، واضطرابات في النوم وفي السلوك، وتسارع في التنفس والتشويش الذهني والشلل الارتخائي. وهناك غازات تؤدي مع طول الوقت إلى الإصابة بالسرطانات وأحيانا الوفاة.
ومع أنه لم تجرى حتى الآن دراسة إحصائية لحجم الأضرار الصحية على المجتمع المحلي، سواء من حيث نسبة الوفيات أو مدى انتشار الأمراض التنفسية التي ذكرت سابقاً، إلا أنه حسب سجلات دائرة صحة محافظة جنين؛ فإن نسبة حدوث المشكلات الصحية في "يعبد" هي أعلى بشكل ملموس من التجمعات السكنية المجاورة. كما أن ارتفاع نسبة الدخان في الهواء وبشكل دائم يؤدي إلى ترسب طبقة من ذرات الدخان على الجدران والشبابيك. وقد لوحظ أن غالبية الأشجار في المنطقة مغطاة بذرات الكربون المنبعثة من المفاحم مما يضر بها على المدى البعيد.
ولكن، في دراسة أعدتها وزارة الحكم المحلي بالتعاون مع جامعة النجاح، حملت اسم التقرير النهائي لدراسة التأثيرات البيئية والصحية لصناعة الفحم في يعبد، جاء فيها أن العينات التي تم سحبها من التربة المحيطة بالمفاحم لم يظهر عليها آثار تلوث بيئي، وأيضا أظهرت نتائج الفحوصات على العاملين في المفاحم والأهالي القريبين منها عدم ظهور تأثيرات سلبية خطيرة على الصحة العامة، بما في ذلك الجهاز التنفسي، ولكن ظهرت آثار بيئية سلبية على الغطاء النباتي، وعلى نوعية وجودة المحاصيل (وخاصة الزيتون) وكذلك آثار تلوث وأوساخ على المنازل والسيارات بالإضافة للروائح الخانقة. وكانت جميع العينات قد فُحصت في مختبرات جامعة النجاح.
الباحث "هشام أبو ذيب" في أطروحته لنيل شهادة الماجستير من جامعة النجاح، والتي كان عنوانها "تقييم الأثر البيئي لصناعة الفحم في منطقة يعبد"، أكد أن منطقة "يعبد" تعاني من التلوث البيئي بفعل المفاحم؛ وأن هناك مخاطر على المياه الجوفية في المنطقة، خاصة وأنها تقع فوق حوض مائي رئيسي يغذي منطقة شمال الضفة. ولكن، بأن غالبية المياه المستخدمة تتبخر أثناء عملية التصنيع، فإن الكميات التي تتسرب إلى الطبقات السفلى من الأرض قليلة جداً، وقد أظهرت الدراسة أن المياه الجوفية غير ملوثة إلى الحدود التي تشكل خطرا على الصحة العامة, وذلك لعمق الآبار المستخدمة لاستخراجها. إلا أن صناعة الفحم أثرت في خصائص التربة في منطقة الدراسة, دون أن ننسى مخاطر اجتثاث الغابات وقطع الأشجار بشكل جائر، الأمر الذي ينذر بزوال الغطاء النباتي واختفاء الغابات من المنطقة، وفي هذا أكبر خطر على التنوع الحيوي.
البعد الاقتصادي لصناعة الفحم
رغم أن صناعة الفحم في "يعبد" تراجعت في الآونة الأخيرة إلى حد ملموس، وذلك بسبب المضايقات الإسرائيلية من جهة، وبسبب ارتفاع تكلفتها، وانخفاض عائداتها الربحية من جهة ثانية، الأمر الذي دفع بالكثير من تجار الفحم للتحول إلى استيراد هذه المادة من مصر ومن بلدان أخرى. رغم ذلك، فإن صناعة الفحم تشكل حوالي 30% من مصادر الدخل للبلدة.
وحسب الباحث "هشام أبو ذيب" فقد بلغت قيمة الإنتاج السنوي لصناعة الفحم حوالي ستة ملايين دينار، بمعدل إنتاجية مقداره 76 ألف ديناراً سنويا للموقع الواحد وبمتوسط إنتاج الموقع الواحد (148) طن من الفحم. وبلغ معدل إنتاجية العامل الواحد أكثر من 15 ألف دينار. وبلغ صافي الأرباح السنوية لإنتاج الفحم حوالي مليون وربع دينار, وللموقع الواحدحوالي 16 ألف دينار.
ووفقًا لتقديرات وزارة الاقتصاد الوطني في محافظة جنين وجمعية "الفحم صديق البيئة" في يعبد؛ بلغ عدد ورش إنتاج الفحم في منطقة يعبد ومحيطها نحو 80 ورشة، يعمل فيها يقرب من 400 عامل، وبلغ إنتاجها السنوي ما يقرب من 15 ألف طن، معظمها تباع في السوق الإسرائيلية.
إجراءات إسرائيلية ضد صناعة الفحم الفلسطيني
سلم الجيش في العام 2010 إخطارات هدم لبعض المشاحر بحجة أنها منطقة عسكرية، وأنها تلوث البيئة، والسبب الحقيقي كما يقول أحد العمّال هناك هو لتوفير الراحة للمستوطنين في مستوطنة "دوتان" القريبة. بينما قال آخرون أن الهدف هو ضرب الاقتصاد الفلسطيني، بطرق جديدة وأكثر فاعلية. مبررات إتخاذ القرار الإسرائيلي وما تبعه من إجراءات عملية جاءت على خلفية ما تسببه المفاحم من آثار بيئية سلبية على المنطقة، بحسب إدعاء سلطة البيئة الإسرائيلية، الأمر الذي شكك به "رياض كميل"، مدير الدائرة القانونية للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، قائلا أنه "في حال كان هناك تأثير سلبي على البيئة فنحن على استعداد لإيجاد الحلول المناسبة"، معتبراً أن القرار الإسرائيلي يأتي بهدف ضم جميع العاملين في تصنيع الفحم إلى جيش العاطلين عن العمل. وفي العام 2011، اقتحمت قوات إسرائيلية معززة بالجرافات قريتي برطعة، والمنطار ، وهدمت ما يقارب العشرين منشأه، وبحسب تقرير أصدره المجلس القروي ل"برطعة الشرقية" قدر حجم الخسائر بأكثر من مليون شيكل، بالإضافة إلى قطع أرزاق عشرات الأسر التي كانت تعتاش من العمل في هذه المفاحم".
توصيات
ما زالت الحكومة عاجزة عن حل معضلة المفاحم، بالرغم من أضرارها البيئية والصحية، ذلك لأن صناعة الفحم في هذه المنطقة تشكل مصدر دخل رئيسي لمئات الأسر من ناحية، ومن ناحية ثانية هنالك هجمة إسرائيلية على هذا القطاع؛ الأمر الذي سيضع الحكومة في موقف حرج إذا ما أقدمت على أي خطوة ضد العاملين في صناعة الفحم. ومن الجدير بالذكر أن معظم هذه المنشآت لم تحصل على ترخيص من أية جهة كانت، مما سمح بإقامة مشاحر في مواقع قريبة من المناطق العمرانية، كم أن تلك المنشآت تفتقر لإجراءات السلامة ولا تخضع لأي عمليات تفتيش أو رقابة.
ولتحقيق بعض التوازن بين الجوانب الصحية والبيئية والاقتصادية في هذه المعادلة الصعبة فإن اللجنة الوزارية الفنية المكلفة قد أوصت في تقريرها النهائي بمجموعة من التوصيات منها: ضرورة الحصول على رخص من الدوائر الرسمية المختصة، مع التزام صاحبها بالشروط الصحية. وضرورة إجراء دراسات فنية على طرق التصنيع المستخدمة وذلك بهدف تطويرها بالشكل الذي يحد من مقدار التلوث الذي تتركه على البيئة، وأيضا يجب على العاملين استخدام أدوات الوقاية المناسبة أثناء تواجدهم في منطقة المشاحر، كما يجب على وزارة الصحة القيام بدراسات إحصائية دقيقة حول الأوضاع الصحية للسكان، وإجراء فحوصات دورية للعاملين، بالترافق مع حملات للتثقيف الصحي.
ومن ضمن إجراءات تخفيف التلوث التوقف عن استخدام الطرق التقليدية القديمة الضارة بالبئية، واستخدام أفران خاصة، وبما أن هذه الأفران مكلفة جدا، ولديها طاقة إنتاجية عالية، فإن الخيار الأمثل هو تعاون أصحاب المفاحم مع بعضهم البعض في عمليات الإنتاج.