بقلم ثائر العيسة
في ظل تسارع التقدم التكنولوجي خلال السنوات القليلة الماضية تطور السوق التقني الفلسطيني بشكل سريع كغيره من الأسواق التقنية العالمية، وحدث ازدياد في الطلب الإقليمي والعالمي على هذه الخدمات ، وبالتالي ازدياد الطلب على السوق الفلسطيني؛ غير أن العدد المتوفر من المبرمجين التقنيين لتلبية هذا الطلب أخذ بالتضاؤل خلال الخمس سنوات الأخيرة.
إذ يوجد نقص في المهارات التكنولوجية المعروضة في السوق الفلسطيني، وهذه الندرة في المهارات التقنية في تزايد مستمر وملحوظ. وتزامناً مع هذا النقص لا ينضم عدد كافٍ من المؤهلين لسوق العمل في مجال التكنولوجيا، في حين يشهد الطلب عليه نمواً مستمراً.
ففي عام 2010 كان عدد الشركات العاملة في سوق البرمجة في فلسطين أكثر بقليل من 4 شركات بينما ارتفع العدد إلى أكثر من 15 شركة عاملة في هذا القطاع عام 2021.
حيث عملت شركات القطاع الخاص على فتح أسواق جديدة خلال السنوات العشر الماضية بالإعتماد على سمعة المبرمج الفلسطيني الذي اتسم بأنه عالي الإنتاجية، والجودة، ضمن تكلفة مقبولة مقارنة بالأسواق العالمية والإقليمية.
وبهذا استطاع السوق الفلسطيني استثمار المهارات والميزات للمبرمجين لفتح شركات قادرة على المنافسة، وتقديم خدمة عالية الجودة بسعر قريب للأسواق العالمية.
وتمكنت هذه الشركات من تلبية الطلب لمشاريع صغيرة ومتوسطة بما لا يزيد عن 10 – 15 موظف للمشروع الواحد، إذ أن حجم أغلب الشركات الفلسطينية يتراوح ما بين 10 و 50 موظف في حين أن بعض الشركات الكبيرة في فلسطين تعاني من عدم المقدرة على تلبية طلب زبائنهم بتوفير أعداد أكبر في المشروع الواحد بسبب قلة عدد المبرمجين المؤهلين للعمل في السوق.
ولحل هذه المعضلة حرصت الشركات الكبيرة في فلسطين على استهداف الطلبة الجامعيين في السنوات الدراسية الأخيرة، وعرضت عليهم العمل بوظائف جزئية ورواتب عالية بهدف تجهيز هؤلاء الطلاب لسوق العمل ضمن برامج تدريبية مكثفة.
وعلى الرغم من هذه الخطوات، إلا أنه اتضح أنها وحدها لا تكفي لعلاج هذه المسألة، وخاصة أن السوق الفلسطيني في الوقت الراهن يمر في زمن ندرة التقنيين الذي يؤثر سلباً على سوق العمل في فلسطين.
كما ترتب على ندرة المهارات المعروضة في السوق التقني الفلسطيني في الوقت الحالي ظهور عدد من التأثيرات السلبية على واقع السوق التقني في فلسطين، تتمثل في عدم قدرة الشركات الفلسطينية على النمو بما يُلبي طلب الزبائن الحاليين لهذه الشركات، وعدم قدرتها على تلبية الطلب القادم من شركات وأسواق جديدة أيضاً.
وهذا بدوره أثر على سمعة هذه الشركات في الأسواق الإقليمية والعالمية باعتبارها شركات غير مؤهلة وغير قادرة على تلبية الزيادة في الطلب، مع العلم أن خاصية قدرة التوسع هي واحدة من أهم الأمور التي يتم عليها تقييم شركات Outsourcing .
وبسبب هذا النقص في المعروض وزيادة الطلب أصبحت المنافسة بين الشركات الفلسطينية على الموظفين وليس على الزبائن مما زاد تكلفة الموظف المستقطب لتصل إلى السقف الأعلى لارتفاع الأسعار.
وإذا لم يتم حل هذه المسألة فستخسر هذه الشركات ميزة السعر مقارنة بالأسواق الإقليمية التي لا تعاني من ندرة المهارات المعروضة في هذا القطاع أو تلك التي مازال لديها هامش معقول لرفع تكاليفها، مثل: السوق المصري الذي ساعده تدهور قيمة العملة المحلية من المنافسة عالمياً من خلال تقديم خدمات بأسعار قليلة.
أما المنعطف الأكثر خطورة في هذا السوق لا يتمثل في ندرة المبرمجين، بل إن الأخطر هو أن الحكومة الإسرائيلية تنوي فتح باب توظيف المبرمج الفلسطيني مباشرة دون التعاقد مع شركة. عن طريق منح اكثر من 500 تصريح عمل للعاملين في قطاع التكنولوجيا خلال الثلاث سنوات القادمة كمرحلة تجريبية.
وفي ظل هذا الواقع المأزوم للسوق الفلسطيني، فإنه سيترتب على هذا الاستقطاب جملة من التأثيرات غير المحمود عُقباها؛ فخروج الكفاءات من الشركات الفلسطينية أمر لن يكون بالإمكان تعويضه؛ خاصة أن هذا البرنامج يستهدف الموظفين ذوي الخبرة وليس الخريجين الجدد.
وعندما يتم تفريغ الشركات الفلسطينية من ذوي الخبرة سوف يؤثر ذلك على قدرة هذه الشركات على تقديم الخدمة المطلوبة. وهنا سوف تبدأ موجة أخرى من النزاع على المهارات التقنية داخل السوق الفلسطيني، فعلى المدى القصير سوف يستفيد بعض المبرمجين ذوي الخبرة لكن على المدى البعيد سوف يخسر السوق الفلسطيني؛ بسبب تفريغ الشركات من ذوي الخبرة و القادة التقنيين.
وهذا سيؤثر على المشاريع القائمة والذي سيتسبب على الأغلب بإغلاق هذه المشاريع وتسريح المبرمجين المتبقيين، و في بعض الحالات الأكثر تشاؤماً يمكن أن يصل الأمر إلى حد إفلاس بعض الشركات.
وأحد أهم أسباب الوصول إلى هذه المرحلة من الندرة في المعروض هو عدم تبني استراتيجية واضحة في زيادة أعداد الخريجين من كليات البرمجة والهندسة التقنية خلال العشر سنوات الماضية. والأمر الذي زاد الطين بِلة هو توجه الشباب الفلسطيني إلى المهن الحرفية في الوقت الذي تعتبر فيه تكنولوجيا المعلومات من أكثر التخصصات والمهن التي يمكن أن تحرر الاقتصاد الفلسطيني من تبعيته للسوق الإسرائيلية، و في المقابل، المهن الحرفية تعمل على زيادة ارتباط الشباب الفلسطيني بسوق الاحتلال الإسرائيلي!
وبما أن ندرة المهارات المعروضة يترتب عليها خطورة جدية ينتج عنها آثار كارثية على السوق التقني الفلسطيني بكافة قطاعاته فإن المطلوب - الآن - هو بناء استراتيجية وطنية لزيادة القدرة الاستيعابية لكليات التكنولوجيا في الجامعات الفلسطينية، وفتح المجال للشباب للإبداع، ودعم الشركات الفلسطينية في هذا السوق، وتمكينها من استعادة السيطرة على كفاءاتها ومقدرتها على التشغيل، عن طريق حمايتها وتشجيع مستثمريها و فتح الباب لمستثمرين جدد، وتوفير فرصة للموظفين لصقل مهاراتهم وإعداد أنفسهم للمستقبل قبل أن نخسر سوق قطاع تكنولوجيا المعلومات, مما سيؤثر على جميع القطاعات الاخرى.