المحامي د.محمود أبو صوي
تسعى القيادة الفلسطينية بشكل حثيث للانفكاك الاقتصادي عن "إسرائيل" لكنها لا تدرك على وجه الدقة ما يتطلبه هذا الانفكاك من شروط؛ فالاستقلال الاقتصادي لا يتأتى إلا عن طريق دعم الاقتصاد الوطني من خلال العمل ضمن خطة استراتيجية وطنية متكاملة وطويلة الأمد، تقوم على محاور رئيسية مُرتبة حسب الأولوية، مع ضرورة توفر إرادة سياسية حقيقية لإنجاح ذلك.
ما زالت السلطة الوطنية الفلسطينية ومنذ سنوات تعاني من التبعية القائمة على أساس الحاجة والنقص في كافة المجالات، منها: الكهرباء والنفط والاتصالات والسلع الاستهلاكية والخدمات الصحية والصناعة والزراعة وشبكات الطرق وغير ذلك من المجالات لا تُعد ولا تُحصى.
في مقال نُشر في جريدة القدس بتاريخ: 9/12/2020 للكاتب غيرشون باسكن - الباحث في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعملية السلام - بعنوان "لماذا يصعب مساعدة فلسطين على الاستقلال؟" تناول الكاتب تجربته الخاصة في محاولة إنجاح مشاريع الطاقة الشمسية في فلسطين كبديل عن شراء الكهرباء من السلطات الإسرائيلية، خصوصاً وأن الطاقة الشمسية مورد دائم غير قابل للسيطرة عليه من قبل أي جهة كانت.
تناول المقال المحطات الصعبة التي واكبت التحضير للمشروع، والمُعيقات التي تسببت في تقليص حجم المشروع بحيث اقتصر على إحدى القرى الفلسطينية، وهي "بيت أولا"، وقد ادعى الكاتب أن المشروع كان سيُقلل من حجم الاعتماد على "الجانب الإسرائيلي"، لكنه توقف عند المحطة الأخيرة بالتخلُّف عن توقيع العقد بسبب وجود معارضة من قبل بعض أعضاء مجلس البلدية، دون تحديد الأسباب والدوافع التي حالت وما تزال دون الموافقة على المشروع؛ وبذلك، لاقى المشروع النهاية التي لاقاها غيره من المشاريع الاستثمارية الفلسطينية.
تعقيبا على ذلك، أرى أن قطاع الاستثمار الفلسطيني يُعاني من معيقات عدة مباشرة وغير مباشرة، كاعتماد النظام المالي الفلسطيني على عدة عملات مُختلفة، وانعدام الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وضعف حركة التبادل التجاري بين فلسطين والدول الأخرى، بالإضافة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة، والتي تهدف إلى إفشال المشاريع الاستثمارية الفلسطينية، وغير ذلك العديد من المعيقات، وأهمها الإشكاليات المتصلة بالبيئة التشريعية الناظمة للأنشطة الاستثمارية مُتمثلة بشكل أساسي بقانون تشجيع الاستثمار الفلسطيني رقم (1) لسنة 1998 النافذ وتعديلاته، فعلى الرغم مما تضمَّنه القانون من حوافز وإعفاءات ضريبية وامتيازات جيّدة لتشجيع الاستثمار بشكل عام؛ إلا أن نصوص هذا القانون وأحكامه لا تتواءم مع ظروف واحتياجات الواقع الفلسطيني، وكأنها صيغت لدولة مستقلة ذات سيادة لا تقبع تحت أي ظروف استثنائية. ومن جهة أخرى، تتعامل نصوص القانون مع الأراضي الفلسطينية بمعايير موحدة، بالرغم من تقسيم المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية إلى تصنيفات (أ، ب، ج)، وما يترتب على ذلك من آثار تتعلق بتباين فرص الحصول على القروض البنكية لتملك الأرض بُغية الاستثمار؛ تبعًا لتصنيف المنطقة التي تقع فيها الأرض. كما جاءت العديد من النصوص القانونية الواردة ضمن القانون المُشار إليه أعلاه، لتُعالج المسائل بصورة جامدة، دون مراعاة تنظيم المسائل المتصلة بالحالات الاستثنائية والطارئة والمستعجلة وفقاً لاحتياجات الواقع الفلسطيني. وقد جاءت بعض النصوص منقوصة وغامضة تفتقر إلى الوضوح والدقة من حيث المدد الزمنية المتعلقة بالاستردادات الضريبية والتي لم يُحدد القانون سقفاً زمنياً لصرفها، وغيرها العديد من الحقوق والالتزامات التي لم تُقيَّد بشكل دقيق بمدد زمنية مُحددة.
تجدر الإشارة إلى أن قانون تشجيع الاستثمار هو القانون الرئيسي الناظم للاستثمار، ولكنه ليس الوحيد، فهنالك عدة قوانين أخرى كقانون الشراء العام النافذ، وقانون العطاءات للأشغال الحكومية النافذ، وغيرها من القوانين الأخرى التي تتصل بشكل أو بآخر بمسألة تشجيع الاستثمار وتؤثر بها؛ ولكنها جميعها لم تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية، ولم تسعى بشكل جاد وكافٍ إلى تشجيع الاستثمار الوطني والمنتجات الوطنية كبديل عن الاستيراد الخارجي للمنتجات والسلع الاستهلاكية، عن طريق منح فئة المستثمرين المزيد من التسهيلات الرامية إلى تشجيع الاستثمار المحلي.
هذا وأستذكر مواكبتنا لخطوات تأسيس مصنعٍ للأعلاف في منطقة الجنوب، والتي جاءت فكرة تأسيسه كاستجابة لما يُعانيه السوق الفلسطيني من نقص في منتجات الأعلاف، إذ أن المنطقة بأكملها تعتمد اعتمادًا كليًا على الاستيراد من السوق الإسرائيلي.
في البداية واجه المشروع تحديًا كبيراً في إيجاد قطعة أرض مناسبة لإقامة المصنع، إذ أن قطع الأراضي المتوفرة والمناسبة للمصنع ضمن التصنيف الصناعي غير ثابتة الملكية؛ مما اضطُر بالشركة إلى قبول شراء قطعة أرض غير مُصنفة لإقامة مشاريع صناعية، ليصار لاحقاً إلى تغير صفة الاستخدام إلى "صناعي" قبل البدء في إجراءات الترخيص.
تجدر الإشارة إلى أن عملية تحويل صفة استخدام قطعة الأرض إلى "صناعي" تمر بإجراءات بيروقراطية طويلة ومعقدة، وفق ما ينص عليه قانون تنظيم المدن والقرى، والأنظمة الصادرة بمقتضاه، إذ ينص القانون على أحكام وشروط غير ضرورية وغير موائمة للمشاريع الاستثمارية ولطبيعتها، من ضمنها الالزام بنشر القرارات الصادرة عن اللجان المحلية ومجلس التنظيم الأعلى، في كل مرحلة من مراحل تغيير صفة الاستخدام حتى صدور القرار النهائي، في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) لغايات الاعتراضات، الأمر الذي أدى بالنهاية الى تأخر البدء في المشروع لمدة عامين (منذ البدء في البحث على قطعة أرض صالحة للمشروع -دون وجود نزاعات ملكية عليها- وحتى الحصول على التراخيص النهائية لإقامة المصنع).
هذا وأرى أن بناء المشاريع التجارية "الإنتاجية" في فلسطين صعبٌ جدًا لعدة أسباب أهمها، أولاً، لا توجد جهة حكومية/ رسمية متخصصة لدعم هذه المشاريع في مراحل تأسيسها؛ خصوصًا وأن العقبات "المُركبة" التي تواجه المستثمر في بداية المشروع تستنزف من ميزانية المشروع أمولاً طائلة، وبالنتيجة؛ ترفع من كلفة الاستثمار بشكل كبير.
ثانيًا، لا توجد جهة حكومية/ رسمية تعمل بشكل فاعل ومتخصص على تذييل العقبات وحل الأزمات التي تواجه المستثمرين. وأذكر هنا أيضًا ما واجهته "شركة البتراء للزجاج" في مراحل تأسيسها من تأخير في تشغيل وربط شبكة الكهرباء لمدة تزيد على عام كامل، بالإضافة إلى حجز الماكينات والمعدات الخاصة بالشركة من قبل الجانب الإسرائيلي لمدة تقارب الثمانية شهور دون تعليل أو تسبيب.
ثالثاً، غياب التنسيق والتعاون بين الوزارات والمؤسسات الرسمية بشكل ملحوظ، وأحد تلك الأمثلة ما صدر عن سلطة النقد الفلسطينية أثناء جائحة "كورونا" من تعليمات للبنوك بإقراض أصحاب المشاريع لغايات توفير رأسمال تشغيلي لهم. وهو ما التفت عنه البنوك، لعدم قدرتها على منح قروض بأقل من التكلفة. لم نلحظ أي تنسيق بين وزارة الاقتصاد وسلطة النقد في هذا السياق. كذلك يمكننا القول بأنه لا يوجد تنسيق فعلي بين وزارة الاقتصاد ووزارة المالية عند الحديث عن الاسترداد الضرائبي للشركات أو دفع المستحقات للشركات الخاصة المُنفِّذة للمشاريع الحكومية.
في ضوء ما سبق، لعلنا لا نُبصر المعايير الحقيقية لدعم الاقتصاد الوطني، والتي يجب علينا كفلسطينيين شعبًا وحكومة الالتفات إليها، أو لعلنا لا نملك الوعي بما يكفي لنُدرك بأننا لنصل إلى الاستقلال الحقيقي علينا أن نبدأ بخطوة أولها دعم المشاريع الاستثمارية الوطنية التي تُمكننا من تحقيق عدة نجاحات صغيرة، فالاستقلال الاقتصادي ما هو إلا تراكمٌ لنجاحات منفردة في مجالات مختلفة، لتقود بعد ذلك إلى منظومة اقتصادية مستقلة وقوية.