د. أحمد صالح صافي
رام الله -الاقتصادي- بينت دراسة أعدها خبراء جمعية التنمية الزراعية (الإغاثة الزراعية) و إشتملت على الحوار مع العديد من الخبراء في مجال المياه و الزراعة و الإضطلاع على العديد من المصادر البحثية و التاريخية أن مشكلة المياه في قطاع غزة تعود جذورها إلى عام 1948 و الذي شهد بداية فصول المأساة الفلسطينية المعاصرة و تهجير مئات آلاف الفلسطينين من أراضيهم إلى مناطق كثيرة و منها قطاع غزة. فلقد كان عدد الفلسطينيين سكان قطاع غزة قبل ذلك العام أقل من 80 ألف نسمة يعتمدون بشكل رئيسي على الزراعة البعلية إلى جانب بعض الزراعات المروية المحصورة بكبار الملاك (بداية زراعة الحمضيات). أما للإستهلاك المنزلي فقد أستخدمت مياه الآبار المدارة من قبل البلديات أو التجمعات السكانية نفسها. تضاعف عدد الفلسطينيين في غزة كنتيجة مباشرة للهجرة ليصبح العدد 250 ألف نسمة. لتبدأ بعد ذلك رحلة التزايد المستمر و المتسارع لعدد السكان إلى 350 ألف عشية حرب 67 و 600 ألف عام 1994 إلى 1.8 مليون عام 2015. في البداية إضطر أهل القطاع الى زيادة مساحة الأرض المزروعة لإطعام الزيادة المفاجئة الكبير لعدد السكان حتى وصلت مساحة الأرض المزروعة إلى 260 ألف دونم من أصل 365 ألف دونم هي مساحة القطاع عام 67. و كذلك إضطروا تدريجياً لزيادة الإعتماد على الزراعية المروية. بعد ذلك بدأوا بتقليص المساحة الزراعية تحت ضغط الإزدياد السكاني المضطرد مع تكثيف هذه الزراعة و زيادة إنتاجيتها حتى وصلت مساحة الأرض المزروعة إلى 150 ألف دونم فقط الآن. نتج عن هذه التغييرات مجتمعة الإنتقال من معدل ضخ سنوي من الخزان الجوفي لا يزيد عن 20 مليون كوب قبل العام 48 إلى حوالى 80 مليون متر مكعب عام 67 إلى 160-190 مليون متر مكعب الآن.
ترافق مع هذه التغيرات و لكن بتأجيل زماني تغير في جودة المياه الجوفية في القطاع. فقبل عام 48 إمتازت المياه الجوفية بمعدلات ملوحة منخفضة ما عدا مناطق جنوب شرق القطاع و شرق المنطقة الوسطى و التي إمتازت بملوحة المياه لأسباب تتعلق بطبيعة طبقات الأرض و المياه في هذه المناطق. إستمر حال ملوحة المياه الجوفية على حاله حتى ما بعد العام 94 حينما إنخفض مستوى سطح الخزان الجوفي إلى ما دون مستوى سطح البحر لتبدأ رحلة التدهور المضطرد لجودة المياه من حيث الملوحة نتيجة تسرب مياه البحر للخزان حتى أصبحت معظم مياه القطاع غير صالحة للشرب و بعضها يتجاوز عشرات أضعاف الحد المسموح به صحياً.
يتضح مما سبق أن مشكلة المياه في قطاع غزة هي في الأصل سياسية حيث أنها نتاج مباشر للإحتلال و التهجير من ثم يصبح العمل على تغيير هذا الواقع من خلال الدفاع عن حقوق الفلسطينيين المائية و حقوق اللاجئين هو الحل النهائي لأزمة المياه. لكن حتى تستطيع غزة أن تصمد و يصمد سكانها أمام التسارع الكبير في تدهور الواقع المائي على سكان قطاع غزة أن يبذلوا جهداً أكبر في جمع و إستخدام مياه الأمطار, إعادة إستخدام المياه المعالجة و المراقبة جيداً في الزراعة فهذا سيوفر عشرات الملايين من الأكواب المائية على الخزان الجوفي و يحسن قدرتنا على إدارة مواردنا المائية المحدودة حتى إحقاق الحقوق و إنجاز الحل السياسي طويل المدى. كذلك على الفلسطينيين في غزة تقنيين إستخدامهم للمياه على مستوى المنزل و المزرعة فكل قطرة ماء مهمة و كل إهدار يرقى لحد الجريمة. على الحكومة و المؤسسات الفلسطينية تحسين الرقابة على الآبار الغير قانونية و بحث سبل الحد من هذه الظاهرة مع مراعاة أن الماء حاجة أساسية للإنسان لا يجب المساس بالقدرة على الوصول إليها. لقد إستطاع سكان قطاع غزة الصمود و التكيف مع تغيرات سياسية و سكانية و إجتماعية و إقتصادية كبيرة خلال ال65 عاماً الأخيرة مما يؤكد كونهم قادرين على العبور من عنق زجاجة الأزمة المائية الحالية إن تمكنوا من إدراك حجم الأزمة و تعاملوا معها سكاناً و حكومةً و مؤسسات بالشكل الواعي المناسب.