اظهر تقرير اقتصادي لـ “ساكسو بنك” أن الاقتصاد الأمريكي لم يتعاف إلى مستوياته التي كان فيها قبل عام 2007، مشيرا إلى أن الاقتصاد لا يزال يعاني من البطء والضعف وضغوطات الأجور وانخفاض مشاركة القوة العاملة بنسبة 440 نقطة مقارنة بالوضع قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، وضعف النمو الاقتصادي الأمريكي مقارنة بفترات التعافي الأخيرة، التي شهدت تسجيل نمو اقتصادي بنسب بين 4% و 5%.
وتُظهر القيم الضعيفة للنمو الاقتصادي المتوقعة، والتي سجلت 2% فقط للأعوام بين 2015 و 2025، مقارنة بنسبة 3% بين 2000 و 2007، أن الولايات المتحدة الأمريكية تدخل في مرحلة من الركود الاقتصادي. ولا يعود ذلك إلى الضرر الذي لحق بالقدرة الإنتاجية نتيجة لأزمة العام 2007 الاقتصادية وحسب، بل يتعدى ذلك إلى مستوى الظاهرة العالمية.
وتعكس هذه الظاهرة عوامل اجتماعية مثل ارتفاع معدل عمر السكان، وانخفاض مستوى الإنتاجية، والتغييرات الهيكلية التي تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي، مثل ظاهرة “أوبر” التي تجتاح سوق العمل، وأتمتة القطاعات الصناعية، وحركة الابتكار الواسعة التي لم تثمر عن ابتكارات فعلية تغير مشهد السوق. ويمكن القول إن السياسة النقدية قادرة على التعامل مع هذا الوضع. وقد وصل هذا الوضع إلى حدوده القصوى، وآن أوان تدخل السياسات المالية.
وتجدر الاشارة إلى أن الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قد أقر عمليات تشديد مالية ثلاث مرات في التاريخ الحديث:
1994 – 1995: خلال تلك الفترة، ارتفع معدل الفائدة الأساسي للاحتياطي الفدرالي بقيمة 300 نقطة ليصل إلى 6%.
1999 – 2000: ارتفعت معدلات الفائدة الأساسية للاحتياطي الفدرالي من 4.75% إلى 6.50%.
2004 – 2006: في يونيو من عام 2004، بدأ الاحتياطي الفدرالي الأمريكي عملية تشديد مالية أدت إلى رفع المعدلات الأساسية من 1% إلى 5.25%. خلال الشهر الذي تلى الرفع الأول لمعدلات الفائدة، وارتفع مؤشر الدولار الأمريكي 2.29%، في حين انخفض مؤشر الذهب بقيمة 3.35%.
وقد عبر الكثير من المستثمرين عن رغبتهم في حدوث تيسيرات كمية، أو ما يعرف اصطلاحاً بـ QE4، أو على الأقل في تأخير رفع سعر الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي لغاية عام 2016.
وأوضح التقرير أن عمليات التضييق الأربع التي شهدتها العقود الأربعة الماضية أدت إلى اضطرابات جدية في الأسواق الناشئة. فقد زادت ديون الدول الناشئة بالدولار الأمريكي بشكل كبير منذ أزمة عام 2007، كما أنها تمتد إلى آجال بعيدة. في عام 2014، وكان إجمالي ديون الدول الناشئة 100 مليار دولار تمتد على مدار السنوات العشر التالية. ومن غير المحتمل أن يؤدي حفاظ الاحتياط الفدرالي على الحالة الراهنة إلى تشجيع عملية تخفيض ديون لم تبدأ بعد. كما أن من غير الممكن إنهاء حلقة الدين الحالية دون إعلان إفلاسات وأزمات مالية إضافية.
وستكون أكثر الدول تأثراً بهذه المخاطر هي تلك التي لم تنجح في تخفيض اعتمادها على قطاع النفط خلال العقد الماضي، الذي حققت فيه أسعار النفط ارتفاعاً قوياً. وبعد فك كازخستان ارتباط عملتها بالدولار وتخفيض قيمتها بنسبة 20%، قد تضطر العديد من الدول إلى اتخاذ إجراءات مماثلة في أفريقيا وآسيا الصغرى والجزيرة العربية، وهو ما سيقود إلى المزيد من التقلبات في سوق الفوركس. إلا أن الفشل الذي منيت به دول مثل جنوب إفريقيا والبرازيل والصين وتركيا لا يجب أن يصرف الانتباه عن النجاح أو إمكانيات النجاح الذي حققته دول أخرى مثل كولومبيا والهند والبيرو والفلبين وحتى بولندا. وستكون لدى الدول التي أنجزت الإصلاحات الهيكلية المطلوبة خلال السنوات الماضية فرصة أكبر للتكيف مع رفع معدلات الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي، والذي سيأخذ غالباً شكلاً تدريجياً، على خلاف المرة الماضية التي حصل فيها مثل هذا الرفع في عام 2004.
إلا أن احتماليات رفع معدلات الفائدة في سبتمبر تبقى أعلى مما يعتقد الكثيرون. وليس هنالك توقيت ملائم لتشديد السياسات المالية، إلا أن العديد من الدلائل تشير إلى قدرة الاحتياطي الفدرالي على البدء بهذا التشديد خلال الشهر الحالي إن قرر ذلك. وفي ما يلي بعض هذه الدلائل:
في الإطار الضيق للكلمة، يسير الاحتياطي الفدرالي نحو تحقيق مهمته الثنائية.
مع انخفاض معدل البطالة إلى 5.1%، يمكن القول إن الاقتصاد الأمريكي يقترب كثيراً من مستوى انعدام البطالة. كما أنه يدخل عامه السابع من التوسع. وتعد فترة النمو الحالية، والتي بلغت 16 شهراً، أعلى من معدل فترات النمو منذ عام 1945. وفي ما يتعلق بالتضخم، اقترب الاحتياطي الفدرالي من تحقيق هدفه مع وصول نسبة التضخم (باستثناء قطاع النفط والطاقة) إلى قيمة 1.8%، وهي قيمة قريبة من الهدف الذي يبلغ 2%. ومع أخذ تطورات سعر البرميل بعين الاعتبار، يمكن القول إن مستويات التضخم قد انخفضت جدياً، إلا أن حالة شبه التضخم الحالية تعد عاملاً خارجياً لا يمتلك البنك المركزي تأثيراً مباشراً كبيراً عليه، ولا يمكن أن تكون العامل الوحيد الذي تقرر السياسات المالية الأمريكية بناءً عليه.
الاحتياطي الفدرالي يدرك مخاطر خلق فقاعات مضاربة
وعلى الرغم من أن منع حدوث فقاعات المضاربة لا يعد رسمياً جزءاً من مهمة الاحتياطي الفدرالي الثنائية، إلا أن هذا الهدف المنطقي يكتسب قوة أكبر بسبب هيمنة القطاع المالي على الاقتصاد.
وكانت الأدبيات الاقتصادية الصادرة في بدايات القرن الماضي قد أشارت إلى أهمية إدراج أسعار الأصول المالية والقطاع العقاري من قبل البنوك المركزية، من أجل الحصول على رؤية متكاملة لمستوى التضخم الحقيقي. وتؤكد الفقاعات التي حدثت مؤخراً في قطاعي الأسهم والعقارات في العديد من الدول الصناعية هذه الأهمية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن الفائض الذي أدى سابقاً إلى أزمة عام 2007 يعود إلى الظهور.
فالعديد من أسعار الأسهم غير مرتبطة بميزانيات الشركات، كما أن المشترين للمرة الأولى قادرون على استجرار قروض بقيمة 97% من الأسعار الأصلية للعقارات التي يشترونها. وتشير العودة إلى سياسات نقدية أكثر تقليدية إلى وجود مخاطر واضحة، إلا أن أهم ما ستعود به من منافع هو استعادة القيمة الحقيقية للمال.
التنسيق بين البنوك المركزية
حتى وإن كان التنسيق بين البنوك المركزية في مجال السياسات المالية مجرد وهم، إلا أنه موجود على أرض الواقع ضمن حدود معينة. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في قرار البنك المركزي السويسري في يناير الماضي إلغاء الحد الأعلى لسعر صرف الفرنك السويسري والذي حافظ عليه لمدة ثلاث سنوات، قبل أيام قليلة فقط من إعلان تيسيرات كمية من قبل البنك المركزي الأوروبي. وفي حال قرر الاحتياطي الفدرالي رفع معدلات الفائدة في سبتمبر القادم، ستستمر عمليات طباعة العملة في العالم. وسيكون التشديد المالي في الولايات المتحدة تدريجياً. وبالإضافة إلى ذلك، لا يجب على البنك المركزي الأوروبي رفع معدلات الفائدة الخاصة به قبل نهاية عام 2016 بالحد الأدنى، كما أن بنك اليابان يطبق عمليات مشابهة من المتوقع أن تنتهي قريباً.
مصداقية الاحتياطي الفدرالي
كان هنالك شبه إجماع طوال الأشهر الماضية على حدوث رفع لمعدلات الفائدة في سبتمبر، وهو ما قاد إلى إعادة تموضع للمحافظ الاستثمارية لصالح الأصول بالدولار الأمريكي منذ الربيع الماضي.
وسيؤدي التراجع عن هذه الخطوة إلى إضعاف مصداقية الاحتياطي الفدرالي، وهز صورة استراتيجيته التوجيهية التي تم إصدارها في عام 2008، كما سيزيد من القناعة بأن قراراته مرهونة بتحركات السوق. وقد تأثرت مصداقية البنوك المركزية بشكل سلبي منذ أزمة الفرنك السويسري في مطلع عام 2015. وقد يؤدي تأجيل رفع معدلات الفائدة إلى التشويش على رسالة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بشكل جدي. وحتى وإن قرر الاحتياطي الفدرالي الحفاظ على الحالة الراهنة خلال الشهر الحالي، مدفوعاً ربما بالوضع في الصين، من الصعب تفهم أن يتم تأجيل رفع معدلات الفائدة حتى نهاية العام. وسيكون الاحتياطي الفدرالي غير قادر على الدفاع عن مثل هذا التغيير في استراتيجيته.
وكالات