المهندس طارق حامد
و للحديث بقية.. في المقال السابق تحدثت عن مفهوم اللوجستكس بشكل مبسط وتطرقت الى مفهومه في السوق الفلسطينية وكيف يتم توظيفه في شركات "النقل" التي تحمل اسم " لوجستية".
مما لا شك فيه ان الخدمات اللوجستية لا تقتصر فقط على النقل، بل تصل الى ابعد من ذلك اذا ما تم توظيفها بمفهومها الصحيح لتساه في بناء اقتصاد الدولة، و للمطلعين على التقارير الاقتصادية يمكنهم القراءة عن تأثير الخدمات اللوجستية في اقتصاد اندونيسيا و الهند مثلا، و كيف استطاعت هذه الدول بفعل تطوير خدماتها اللوجستية ان تنهض باقتصادها و توفر الرفاهية لمواطنيها.
على سبيل الحديث عن الرفاهية اللوجستية اذا صح التعبير، سأتحدث اليوم عن كيف يمكن للخدمات اللوجستية ان تحسن من حياة المواطن في دولة ما، وان كان القارئ لما اكتب قد يخطر بباله امرا مهما و بديهيا يتعلق بوضع فلسطين او المناطق حرة الحركة فيها ووضعها السياسي و السيادي، الا ان وظيفة العملية اللوجستية هي توفير حلول لمثل هذه المعضلات، فكيف يمكن تسهيل حياة الناس من خلال الخدمات اللوجستية في بلد مثل الحبيبة فلسطين؟!
عند الحديث عن العملية اللوجستية فاننا نعني بذلك اكثر من مجرد عملية نقل للطرود او البعائث البريدية، هنا نتحدث عن علاقة الموارد ببعضها البعض او ما يعرف لوجستيا (ecological logistics)، نتحدث ايضا عن الاقتصاد بشكل كبير و مهم كما نتحدث عن تاثيره في الحياة الاجتماعية (social logistics)، لعل هذه الاخيرة صدمتك كقارئ نوعا ما. وهنا سأحاول قدر الامكان ان اوجز و اكون مباشرا في ايصال المعنى المطلوب.
الاقتصاد و اللوجستكس:
من النظرة الاولى للعملية اللوجستية في فلسطين، يعتقد المعظم ان الخدمة اللوجستية مرتبطة بالموانئ والمطارات ومخلصي الجمارك بالاضافة الى النقل الداخلي.
الا ان الحقيقة التي قد يجهلها الكثير من الناس ان الخدمة اللوجستية موجودة في شركات اخرى، فمثلا لا بد من وجود قسم مشتريات و مبيعات و توزيع في الشركات بحسب منتجها او اختصاصها وهذا بحد ذاته جزئ من الخدمات اللوجستية التي يمكن لشركات اللوجستكس تقديمها للشركات الاخرى في فلسطين بشرط ان تتوفر في الخدمة حلول تضمن للشركات تقليل في تكلفتها التشغيلية.
مع اتساع الفجوة، الا اننا اذا نظرنا الى أوروبا مثلا فان 15% من تكلفة المنتج فيها يأتي من العمليات اللوجستية وبالقدر الذي يمكن لهذه الشركات تخفيض تكلفتها اللوجستية بالقدر الذي يضمن لها مردودا افضل و بالتالي دعم الشركة للتركيز على اضافة منتجات اخرى او توسيع رقعة عملها و بالتالي خلق فرص عمل للمواطنين في تلك الدولة و تسهيل تسويق المنتجات باسعار في متناول الجميع.
ولا يمكن ان ننسى ايضا ان توظيف الحلول اللوجستية للشركات ضمن هذا المفهوم بحد ذاته يزيد من فرص تشغيل الشركات اللوجستية و بالتالي حاجتها لتوظيف ايدي عاملة ذات خبرات و اخرى مبتدئة.
في فلسطين نشطت مؤخرا حركة الشراء و الاستيراد و هناك شركات اصبحت بحاجة لحلول تقليل التكلفة لكي تستطيع ان تسوق منتوجاتها بأسعار مقبولة محليا و من هنا تأتي حاجة السوق الفلسطيني الى توسيع الخبرات اللوجستية التي تقدم لمثل هذه الشركات هكذا خدمات لتتيح لها فرصة التركيز على توسيع مجال عملها و تطوير حجمها لاستيعاب عدد اكبر من الموظفين والمساهمة في تقليل نسبة البطالة في السوق.
ومن هنا يأتي التركيز على ضرورة ان تخرج الشركات اللوجستية من مفهوم "النقل" فقط وان تلعب دورها الحقيقي في دفع عجلة الاقتصاد في الوطن وهذا مثال من عدة امثلة يمكن ان تضيفها الخدمات اللوجستية لدعم الشركات الوطنية و دفع عجلة اقتصاد الوطن.
مما لا شك فيه ان الخدمات اللوجستية تتأثر بشكل كبير بمدى تطور المجتمعات. حيث تسعى المجتمعات المتطورة الى البحث عن الحداثة في كافة مجالاتها، وبكلمة مجتمعات اعني الفرد واعني الشركات و المؤسسات، وما هو واضح فلسطينيا ان الافراد يبحثون عن الحداثة وخاصة ان الفلسطينين منفتحين على العالم الغربي بشكل كبير وملحوظ ويرتبطون ببلدهم بشكل مميز فيسعون دائما الى استقطاب افكار غربية في مجالات العمل و الحياة.
الا أننا فلسطينيا نفتقر لمفهوم توظيف هذه المجالات بشكلها الصحيح فترى محاولات منها ما ينجح و منها ما يختفي ظنا منا انها لا تتناسب مع فلسطين.
ومن هنا انصح الشركات التي وصلت مرحلة متقدمة في تأثيرها في اقتصاد الوطن و الشركات التي تسعى لاثبات وجودها ان تبحث عن شركات الخدمات اللوجستية التي تقدم الخدمة بمفهومها الصحيح و ليس المفهوم السطحي الذي يقتصر على النقل فقط.
فالخطا اللوجستي ان وقع مكلف جدا و يضر بمكانة هكذا شركات. لذلك لا تبحث عن التوصيل و النقل بقدر ما تبحث عن خدمة شاملة تضمن لك تخفيض تكاليف تشغيلية لكي تستطيع استثمار هذا التوفير في مجالات اخرى مهمة لشركتك.
قد يناقش البعض في عدم استقرار فلسطين سياسيا و اقتصاديا و هذا يشكل عبئ على الشركات المستثمرة. الا انني اقول ان العمليات اللوجستية وجدت لتحقيق الاستقرار و الثبات و توفير الحلول التي تضمن استمرارية الشركات و المؤسسات في ظل الظروف الصعبة.
ولهذا السبب انصح الشركات اللوجستية بتطوير انفسها لتقديم حلول بدلا من وضع افتراضات تشكل عقبات امامها وامام الشركات الاخرى التي تسعى لتطوير خدمتها للاقتصار على الجزئية الاسهل في مجال الخدمات اللوجستية، الا وهي النقل وغالبا لو تم اجراء دراسة جدوى من بعض الشركات التي توفر خدمات البيع و تبحث عن شركات التوصيل فقط ستجد ان لو انها ملكت اسطولها في التوصيل لكان افضل لها بدلا من اللجوء لشركات " النقل" و هذا موضوع مهم سأتطرق له لاحقا.
اللوجستكس و الايدي العاملة:
قد يعترض البعض على مقارنة فلسطين بغيرها من الدول و ذلك نظرا للامكانيات المحدودة في فلسطين. و من هنا اقول بأنني لا اقارن بقدر ما استشهد بمثال من باب توضيح الصورة و تفصيلها على مقاس فلسطين وليس من باب نسخها و لصقها! لو قمنا بأخذ تجربة دولة اوروبية في مجال اللوجستكس و عملنا على تطبيقها في فلسطين لا شك اننا سنفشل فشلا ذريعا لان فلسطين ليست بلجيكا مثلا!
ولكن لو درسنا تجربة دولة متقدمة و استخلصنا منها العبر و رسمنا منها صورة على حجم و وضع فلسطين الاقتصادي و السياسي فاننا و مما لا شك فيه سننجح في تحقيق تقدم ولو كان مجرد وضع حجر اساس في عمارة قد تكون يوما بحجم ناطحات السحاب. و هذا ما يعرف اصطلاحا بمفهوم (benchmarking) و هو عكس ما هو دارج للأسف (copy and paste).
في الاتحاد الاوروبي يوظف اللوجستكس اكثر من 12 مليون شخص و هذا طبعا لم يحصل ما بين ليلة و ضحاها و لكن بكل تأكيد حصل بالتدريج من خلال ادخال الخدمات اللوجستية وتوظيفها بمفهومها الصحيح و الواسع غير المقتصر على توصيل الطرود فقط.
فمثلا في فلسطين اليوم تعمل شركات النقل على توصيل الطرد وتحصيل قيمته من الزبون المشتري. بينما تفتقد شركات البيع لمفهوم الدفع المسبق وهذا لا يعني تحت اي ظرف ان خدمة الدفع عند التوصيل غير صحيحة و لكن من مفهوم التشغيل يمكن لشركات تكنلوجيا المعلومات البدئ بتقديم هذه الخدمة لشركات البيع من خلال الانترنت و بالتعاون مع خبراء في مجال الخدمات اللوجستية حتى يتم بناء الخدمة بصورتها الصحيحة وبعيدا عن مفهوم العقبات مثل ( ثقافة المجتمع لا تقبل, الوضع الحالي لا يتيح الفرصة لمثل هكذا مشاريع ... و غيرها من الحجج ).
واشير هنا الى خدمة جيدة دخلت السوق الفلسطيني من خلال بنك فلسطين الا وهي خدمة (PalPay) والتي يمكن استثمارها و لكن بشكل مدروس كما اسلفت.
و من هذا المنطلق اقول ان الخدمات اللوجستية في اي شركة ممكن لها توظيف ايدي عاملة في عدة مجالات مثل ( ادارة الشراء، ادارة المستودعات، التسويق، المبيعات، النقل، التخطيط و التطوير) وغيرها كثير و لكن ليس ضمن المفهوم التقليلدي بل ضمن المفاهيم اللوجستية الحديثة وادارة الموارد او ما يعرف علمليا ب (Enterprise Resource Planning (ERP)).
وهذا يستدعي تشغيل مجالات اخرى بالتعاون مع الخدمات اللوجستية مثل تكنلوجيا المعلومات (IT) شركات المعدات الثقيلة مثل الشاحنات و الرافعات و سيارات النقل و غيرها. و لو فصلت اكثر لتحدثت عن موارد اخرى و مجالات اخرى يمكن ان تدخل ضمن توظيف العملية اللوجستية.
و لأجل الحصول على الخبرات اللوجستية لا بد من استثمارها في مجال التعليم في الجامعات و بالتالي خلق تخصصات جديدة في الجامعات تغذي حاجة السوق في هذا المجال.
وختاما و حتى تصل الفكرة لوجستيا لا بد من عدم الاطالة على القارئ.. وللتأكيد ان ما ورد في هذا المقال وما سيرد في غيره انما هو لتوعية السوق الفلسطيني والمستثمرين فيه بأهمية الخدمات اللوجستية وضرورة الاهتمام بها ومعرفة كيفية استثمارها واين يمكن استثمارها كي تنهض شركات الوطن باقتصاد الوطن وان يتم استقطاب الخبرات الفلسطينية ضمن هذا المجال من قبل شركات الخدمات اللوجستية وان تستثمر الشركات الاخرى بأصحاب الاختصاص اللوجستي حتى يوفروا خدمات مهمة لها و لموازنتها وتحقيق ارباحها.
في المقال القادم سأتحدث عن مكان وجود هذه الخبرات في فلسطين و لكن للاسف دون ان يتنبه لها احد و لعظم اهميتها في اقتصاد الوطن و سوق العمل.
المهندس طارق حامد