رام الله – الاقتصادي- ريم أبو لبن – يفتحون الألبومات القديمة لحظة بلحظة، وعاما بعد عام علهم يلمحون طيفهم يرقد بجانب معلم ديني هو بنظرهم حلم يطمحون للوصول إليه لقضاء صلاة المغرب بين باحاته التي تستظل بظلال قبة ذهبية ومسجد قبلي وما يقارب 200 معلم آخر يتمتد على مساحة 144 دونما، وبذلك يتسع المسجد الاقصى لـ 750 الف مصل باختلاف أجناسهم وأديانهم.
هم يكتفون بالنظر إلى شاشات التلفاز ويترقبون أخبار القدس والتهويد والاستيطان، ويستمعون لأحاديث هاتفية تدورمن قلب المسجد الاقصى تحدثهم بأجواء روحانية لم يشاهدوها من قبل لعدم حصولهم على تصريح للدخول او بحجة "الرفض الأمني" او لسبب مادي يمنعهم من التنقل. فكيف هي القدس في عيون من سبقتهم الأقدار لزيارتها بعد غياب سنين طويلة وتحديدا في شهر رمضان؟
23 عاما من الانتظار
" بعد 23 عاما من الانتظار" ، " الوصول إلى القدس رحلة عذاب وذل ولكن لا مفر " جمل التقطتها عيناي أثناء تصفحي صفحة الفيس بوك الخاصة بحمزة السيوري(40) عاما من مدينة الخليل، بعد أن تكحلت عيناه برؤية القدس كما ذكر في حديثه للاقتصادي. "عندما دخلت القدس للمرة الاولى بعد غياب 23 عاما،وعدم منحني تصريح الدخول للمدينة المقدسة حرمني من احتضان اسوارها، ولكن الآن تكحلت عيناني وازاد جمالهما برؤية المكان وتفاصيله، وادركت ماذا نعني حين نقول ان مدينة القدس هي مدينة السلام والتعايش والرحمة". وزيارته للقدس وتحديدا المسجد الاقصى ليست تقليدية فهناك المعنى التاريخي للمكان الذي استحضره حمزة بعد أن غاب عن أذهان الكثيرين، فهذا المبنى ليس للتعبد فقط وانما يخفي خلفه معالم لم يدركها سوى الزائر لها والباحث في ثنايا جدرانها وزخارفها .
" كنت فخوراً بكل ذرة تراب تلامس ملابسي أثناء الصلاة "، وبهذه الجملة ادرك حمزة معنى ما كان يتردد امامنا منذ الطفولة، وكنا نستهزئ به " وايش يعني تراب القدس؟" ولكن هذا المعنى الروحاني تتفرد به القدس ومقدساتها إذ تمتلك سحرا خاصا يسحبك نحو الأعمق لاكتشاف روحانية المكان وجماله، وهنا يؤكد حمزة " أن المسجد الاقصى هو اجمل مكان ديني في العالم واكثرها قدسية وروحانية".
" لست زائرا عابرا "
وأضاف حمزة "زيارتي للقدس ليست زيارة تقليدية، فقد تجولت بين زقاقها القديمة لاكتشف أمورمجهولة لدينا تختفي مضمونها خلف الحجارة وزخرفاتها والعصور المتعاقبة عليها، إضافة إلى أثر التهويد ومحاولة اسرائيل تدوير التاريخ العربي لصالحها، وخلق فجوة بين المسلمين والمسحيين داخل المسجد الاقصى، ومن المعلومات التي تفاجأت بها أن هناك منطقة تدعى عيسى الأعظم حيث حاولت اسرائيل زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، من خلال ادعائها الكاذب أن المسلمين قد احتلوا هذه المنطقة التي ولد فيها المسيح عليه السلام، ولكن المسيحيين تداركوا الخطأ وقاموا بإجراء دراسات عده للمنطقة وتبين أن عيسى الأعظم هو واحد من الامراء في العصر الأيوبي ليس أكثر، فهذه محاولة اسرائيلية للتهويد وسرقة التاريخ وتزويره واثارة الفتن الطائفية .
ومن اللافت ايضا حسب ما ذكر حمزة انه خلال تجوالة في أسواق البلدة القديمة للقدس المحتلة كان يلتمس فرح التجار ممن كانت اعمارهم تتجاوز 60 عاما " هاي الفرحة سببها عمران الأسواق من جديد وتحديدا في شهر رمضان حيث يشهد ازدحاما لم يلمسه التجار من قبل وذلك بعد ازدياد اعداد القادمين إلى القدس، واستمعت لبعض احاديثهم الجانبية الله يرحم ايام زمان ...، والله يرحم القدس قيدما لم يكن هناك جدار يمنع أهل الضفة من الدخول، أيام زمان كانت أسهل وأجمل".
20 ألف تصريح في شهر رمضان
20 ألف تصريح صدر من الجانب الاسرائيلي في شهر رمضان لهذا العام حسب ما ذكر وكيل هيئة الشؤون المدنية معروف زهران في حديثه للاقتصادي، تصاريح مؤقتة مرهونة بمواعيد واشهر محددة يحددها الاحتلال، فحتى ممارسة الشعائر الدينية مقيدة بموعد وضمن قوانين يفرضها الاحتلال مثل كل عام، فمن يحالفه الحظ يحصل على تصريح، ومن يرفض أمنيا لسبب غير معلوم كما يدعون ، يقلب التلفاز ليشاهد صلاة التروايح من المسجد الاقصى وفي قلبه غصة اللقاء، والحال هو ايضا في قطاع غزة حيث سمح هذا العام بإصدار تصاريح لاهالي غزة للصلاة فقط يوم الجمعة في المسجد الاقصى . " تم اصدار 500 تصريح في كل جمعة لتأدية الصلاة فقط"، قبل أن يعود الاحتلال إلى التراجع بدعوى فرض عقوبات نتيجة عمليات نفذها مقاومون.
" حلم سينتهي بإنتهاء الموعد "
" لم أصدق حين قالو لي سأصلي في القدس ، 26 عاما وانا انتظر هذه اللحظة " بفرحة لم يستطع وصفها محمد عوض(26 )عاما القادم من غزة لتأدية الصلاة في المسجد الاقصى ، فقد حاول لأكثر من 12 محاولة للحصول على تصريح للدخول ويقابله الرفض" شعرت بأنني في حلم سينتهي في اي لحظة، موعد مغادرتي مرهونة بورقة".
وأضاف " عندما وصلت إلى المسجد الأقصى، شعرت بشعور غريب لم استطع وصفه، فقد اختلطت مشاعر الفرح بالحزن، وبعدها شعرت بالقهر، وعندها ايقنت لماذا كنت دائما ادعو الله بأن يرزقني صلاة في المسجد الاقصى، فكل مكان وقفت فيه كنت اشاهده في التلفاز، وتعود بي الذاكرة إلى الاقتحامات الاسرائيلية لباحات المسجد الاقصى، ولم أكن اشاهدها سوى على شاشة التلفاز، والآن أراها على أرض الواقع بلا حواجز ".
ولم يكن عوض وحده من تمكن من زيارة القدس والصلاة في المسجد الاقصى، فهناك كثيرون من اهالي قطاع غزة ممن كان له نصيب في الصلاة في مسجد يعتبر من أكثر المعالم قدسية لدى المسلمين في العالم.
" بالرغم من أن القدس جزء مني ومن وطنيتي الا انني شعرت بالغربة فيها، وصدمت من حجم التعايش بين الفلسطينيين المقدسيين والمستوطنين، فالبيوت مجاورة لبعضها البعض، والأحياء مليئة بالمستوطنين، فهم يمارسون حياتهم بلا رادع، ويشترون من المحلات ذاتها، ويمشون في الشوارع ذاتها حتى الأسواق مليئة ببضاعة واعلام اسرائيلة، شعرت حينها بأنني غريب في بلد غريبة".
وأضاف " كنت أمشي في البلدة القديمة وكأن الناس ينظرون اليّ، حتى استوقفت شخصا وقلت له لماذا تنظر الي هكذا ؟ قال لي : من ينظر اليك؟ وتفاجأت انه ايضا قادم من غزة، ويبدو ان هذا الشعور هو مشترك بيننا فنحن نتواجد في مدينة لأول مرة نزورها ". وبعد العودة الى قطاع غزة كنت كثيرا أحاول أن امسك الورقة والقلم لكي اكتب شيئا عن القدس ولكن لم استطع وصفها ولم اعرف من اين ابدأ.
من اين ابدأ؟! تساؤل لم يكتب على ورقة بقلم محمد عوض القادم من غزة فقط ، وانما ايضا ضياء ابو سمرة (25) عاما من مدينة رام الله انهى كراسته ولم يكتب شيئا عن القدس، وهو ايضا لا يعلم من اين يبدأ؟!
" رنة عود على باب العامود "
" رنة عود على باب العامود " أمنية صغيرة ولكنها كبيرة في نظر ضياء ابو سمرة " حلمي ادق العود على باب العامود " فكيف له أن تلامس اوتاره باب العامود ولا يمتلك تصريحا بالدخول كما يمتلك تصريحا ذاتيا بالعزف على الة خشبية ؟ 15 عاما وهو غائب عن اسوار القدس وممنوع من الدخول، وقد حاول أكثر من مرة تجاوز الخط الأحمر المفروض على الفلسطينيين ليلجأ للدخول تهريبا إلى القدس ولكن بلا فائدة . وذكر انه زار القدس لاول مرة في عام 1997 اذ كان عمره لا يتجاوز 7 سنوات، فملامح القدس والمسجد الاقصى والبلدة القديمة مغيبة في ذاكرته لا يعرفها الا بالصور . " لو لم ارها في الصور لنسيتها كليا".
" كنت أرى القبة الذهبية بحجمها الصغير مرسومة في صورة، ولكن بالواقع هي كبيرة " هكذا رأى ضياء قبة الصخرة بعد 15 عاما بعد أن كانت تحكمه المشاهد في صور، وهكذا صدم من واقع يراه بمنظور مختلف عن الآخرين، فقد عبر عن حبه لتفاصيل القدس والبلدة القديمة بطريقة لم يرها أحد من قبل، فلم يكن زائرا عابرا بين رحاب المسجد الاقصى " في كل مرة كنت اسلم على حجر ".
" دمعت وانخنقت لما دخلت باب العامود " أنت تشعر بأنك في بلاد ليست لك، وانك مجبر على الرحيل منها في موعد يحدد الاحتلال لك ، " بعد 4 ساعات من الجولة في البلدة القديمة اكتشفت انه في الداخل مش الك وانت شخص غريب، كنت اشوف الاعلام الاسرائيلية منتشرة على البنايات وعلى البيوت وحتى الشبابيك، والمستوطنون متغلغلون بشكل كبير ويمارسون حياتهم اليومية داخل أرضنا، وأطفالهم يلعبون في الشوراع. ويضيف"بالمقابل في مناطق بتحس نفسك تبوس كبار السن وتحضن البهار والحطات الفلسطينية شعور بوجع لا يوصف. "
وأضاف اثناء حديثه عن الأسواق المزدحمة والفجوة الواضحة فيها والتي خلقت صدمه لديه في زيارته الاولى للقدس " اغلب المحلات تبيع الشمعدان، وطواقي السكناج ، وبلايز عليها اعلام اسرائيلية، وصحون بزخرفة وكتابات عبرية، وصور الهيكل هذه الخرافات التي نبيعها نحن، ونصنعها في الخليل والمشكلة الأعظم ان المقدسيين هم من يبيعونها؟ هذا فعلا شيء صادم بالنسبة لي وعندما أتحدث مع أصدقائي حول ما شاهدت تقابلني الاجابة دائما : هي وقفت على الشمعدان؟ الارض كلها راحت .
وهنا استذكر حواري مع أحد اصدقاء المقدسيين قائلا" حين كنا نسير في باحات المسجد الأقصى، ولاحظت أن بلاط الأقصى نصفه مخلوع والنصف الآخر مائل، وكنت قد استسفرت من محمد عن سبب الميلان، قال لي إنها الانفاق، حينها تعجبت وأعدت السؤال بصيغة أخرى : يعني لو رفعت الصخرة بشوف نفق؟
أسئلة يعتبرها البعض غريبة ولكن هي بالفعل تحتاج إلى أجوبة واقعية، فمن يزور القدس للمرة الأولى يجد نفسه ضائعا بين كثير من التفاصيل، تفاصيل تذهب البطون كرائحة البهارات، وأخرى لتجار يبيعون الرموز الاسرائيلية بأيد فلسطينية، وآخرون لا تكف ايديهم عن كتابة ورسم التفاصيل الصغيرة في كل زاوية من زوايا القدس والمسجد الاقصى وحتى البلدة القديمة، ففي كل صورة حكاية ، حكاية ستذّكر أحفاده برحلة قد تمناها منذ سنين وها هي قد تحققت .فهكذا يرى هؤلاء عاصمتهم بعد غياب.