رام الله- الاقتصادي-حسناء الرنتيسي- عمرها يتجاوز الـ70 عاما..(ز. ابراهيم) ام لثلاثة اولاد، وزوج متسلط. تسكن قرية كفر نعمة غربي مدينة رام الله، تجلس وقساوة الاعوام ترسم قصصا من المعاناة على وجنتيها. بيدين مرتجفتين تمتد يدها بعمق في وعاء كرتوني امامها تضع فيه اللوز الاخضر، وتنادي بصوتها الشجي "لوز اخضر.. نص كيلو بـ10"، وما ان يقترب الزبون حتى تلمع عيناها لانعكاس شعاع الأمل فيهما.
اقترب منها شاب طويل القامة، بينما تجلس حول اكوام من اللوز والعكوب وورق اللسان والزعتر الاخضر.. يرقبها من علو طالبا بعض اللوز الذي اثار شهيته، يطلب لوزا بقيمة ثلاثة شواقل، بينما تناشده ان يشتري كل الكمية المتبقية والتي لا تزيد عن نصف الكيلو، فيرفض ويصر على شراء تلك الكمية، مدت يداها المرهقتان نحو الكرتونة، ووضعت اللوز في كيس بلاستيكي وغادر، اخذهما على عجل وتركها تنتظر دقائق او ساعات حتى تبيع ما تبقى لديها من لوز اخضر الذي تضربه خيوط الشمس بقوة، فيميل الى الذبول.. بينما الحاجة (ز. ابراهيم) تميل الى بث شكواها في تلك اللحظات القاسية.
اقترتب منها اكثر فأكثر، سألتها وسألتها، وأجابت بتلك الابتسامة الساحرة وكأنها سنبلة منحنية مدت قامتها نحو السماء بعنف، ثم مدت يديها نحو ما تبقى من اللوز وأخذت ترجوني لتناول اللوز من يديها، تقول ان لها ولدين وابنة، ابنتها تدرس التمريض، وولداها اصبحا شابين، احدهما درس تخصص وجدت الحاجة صعوبة في لفظه، وهو المحاسبة، والآخر درس تخصص "تجارة التسويق" حسب وصفها.
تقول "علمت اولادي من مية عيني.. الله بعلم كيف"، حيث ربت الحاجة اولادها بعملها في الزراعة البيتية الصغيرة، تضمنت ارضا زراعية، زرعتها بغراس الزيتون، واعتنت بها، حتى بات يدخل بيتها 5 تنكات من الزيت، عدا الزيتون "الرصيص" الذي تبيعه في المكان الذي تجلس فيه قرب حسبة رام الله، في شارع القدس.
علمت اولادها الثلاثة، وانفقت عرق جبينها وسنوات عمرها لتستثمر في ابنائها، فكانت النتيجة انهم يعملون في البناء في "اسرائيل"، تقول بمرارة "ينهض ابنائي الساعة الثالثة صباحا، يقبلون جبيني، ويتوجهون الى "اسرائيل" للعمل في البناء، فأمطرهم بالرضا والدعوات بالتوفيق والرزق، بينما كنت قبل سنوات أراهم يخرجون بملابسهم النظيفة، وفي يديهم كتبهم الجامعية، تقول ساخرة "صاروا بطلعوا وبايديهم "العقدة" وعلى اكتافهم عدة الشغل".
أخذت تسهب في الحديث حول ابنائها ثم سقطت تلك الدمعة لتتيه بين تجاعيد وجهها الصغير، وذلك حين أبدت مخاوفها على اولادها الذين يدخلون للعمل بشكل غير قانوني، تعود الحاجة لبيتها فور انتهائها من العمل، تسارع لاعداد الغداء لابنائها، تجلس وتتلصص النظرات نحو الباب وتسير ذهابا وايابا نحو اول الشارع لتشهد طلتهم.
تعمدت الحاجة تجنب ذكر زوجها ودوره في حياتها، لحين شعرت بالرغبة والامان للبوح، فأخذت تشكوه الى الله وهو الذي قسا عليها، تركها تعيش قساوة الحياة وتحمل أعباء اولادها بينما هو يبحث الان عن عروس تعيد له الشباب، انه الزوج الذي لم يجهد نفسه في الحياة. سلم مهمة العناء والشقاء لزوجته طوال تلك السنوات، وبعد ان أعاد الشقاء بعثرة ملامحها الجميلة أخذ يبحث عن فتاة صغيرة، متجاهلة تضحيات تلك المرأة التي بنت بيتها حجرا حجرا من لاشيء الا جهدها وعرق جبينها.
تقول "بعت ذهبي كله، وحرمت حالي من الحياة حتى أبني بيت واضم اولادي تحت جناحي.."، وتشير بيديها بشكل عشوائي نحو اتجاهات متفرقة، ثم توجه نظرها للسماء وتقول ان الله يرى انه ظالم .. يهددها وأولادها باخراجهم من المنزل ليتزوج.. ثم تقول "المهم اولادي حولي"..
ثم تمدّ يديها لما تبقى من اللوز الاخضر، ترسم تلك الابتسامة الجذابة على شفاهها وتقدم كل ما تبقى من اللوز لي.
سحرتني تلك المرأة الفلسطينية بثوبها الاسود المطرّز بالاحمر.. سحرتني تلك الصلابة .. معها رسمت صورة جمالية.. وبابتسامتها رسمت الجزء الاكثر جمالا.. موناليزا متحدثة لا يغريها أعياد المرأة او ألام.. انما تبعث رحيقها حين تدعو لها بسلامة ابنائها وأن يفرحها الله بهم..
تركتها تلملم ما تبقى من لوزها الاخضر مهيئة نفسها للعودة لمنزلها كي تتم مهامها المنزلية وتستعد لاستقبال ابنائها، وبينما ألوح عائدة للعمل.. أقبل أحدهم وأسرع لشراء ما تبقى من لوزها الاخضر.. فلوحت لي باشارة النصر.