وكالات - الاقتصادي - وُلدت في مدينة أتلانتا وقضيت معظم حياتي في ولاية فيرجينيا، لكن عندما يسألني أحدٌ عن موطني، دائماً أقول سوريا.
تضيف داليا مرتضى الصحفية ومؤسسة الموقع الإلكتروني "مذاق سوريا" The Flavors of Syria في سرد قصتها مع الطعام السوري فتقول "نشأ إحساسي بسوريا في المطبخ وعلى طاولة العشاء، في الاغتراف من الفول الأخضر المقلي بالثوم والبقدونس مع ما تحمله يداي من الخبز البلدي، واختلاس ملء فمي بالقشدة الطازجة المحلَّاة بشربات زهر البرتقال".
قبل حفلات العشاء، اعتدت على تذوق كل طبق قبل أن يغادر مطبخنا: لعقة من سلطة الزبادي لتقييم حدة طعم الثوم فيها، قليل من الحمص للتأكد أن نسبة الطحينة ليست أقل من اللازم، قضمة من اللحم المفروم المتبّل.
في آخر زيارة لي إلى سوريا، في عام 2010 قبل الحرب هناك كان الطعام لغة مشتركة بيني وبين من قابلتهم هناك، سواءً كانوا أقارب لم أرهم منذ كنت في الثالثة من عمري أم غرباء يطالبونني بالانضمام إليهم على فنجان من القهوة المحوّجة بالهيل.
في السنوات التالية لذلك، قمت بالتقرير عن الحرب في سوريا والأشخاص النازحين بسببها. ودائماً ما يصر اللاجئون الذين قمت بإجراء مقابلات معهم على إطعامي، حتى عندما يقيمون في بيوت مهدّمة بلا أسقف، أو في شقق ناشعة بالرطوبة ومزدحمة بعائلاتهم الكبيرة، قالت لي امرأة في إسطنبول "يجب أن يكون بيننا عيش وملح."
بالنسبة للسوريين، أن تطبخ معناه أن تكون في بيتك، أن تتشارك وجبة وتعقد رابطًا من الصداقة. بينما يربط معظم الناس سوريا بالموت والدمار في نشرات الأخبار –أحياء تحولت إلى ركام تحت القصف الجوي من قبل النظام، مقاتلو الدولة الإسلامية (داعش) بأقنعتهم السوداء، جثث رضع تطفو بلا حياة مع تيار البحر-ما يمثّله السوريون أكثر بكثير من هذه الحرب.
الطعام يسرد التاريخ
يسرد الطعام تاريخ سوريا بشكل أفضل من مجلدات تؤرّخ الحُكّام والحروب. كانت أرض سوريا جزءاً من الهلال الخصيب، حيث وُلدت الزراعة. تقاتل عليها السومريون، الفراعنة، والبابليون (مؤلفو أحد أقدم وصفات الطبخ المكتوبة في العالم)، حكمها الفارسيون، والبيزنطيون، والعثمانيون –ويمكننا تذوق أثرهم فيها.
تقع حلب، وهي أكبر مدن سوريا وأحد أكثر مناطق الحرب عنفاً الآن، على ما كان يعرف باسم طريق الحرير. حمل الباعة والتجار معهم وصفات وتوابل من أقصى البلاد والصين، لتجد طريقها إلى المطبخ الحلبي، في أطباق مثل كرات اللحم الغارقة في صلصة الكرز الحامضة (لحمِة بكرز) ويخنة السفرجل ولحم الضأن المفروم المحشوة في كرات من البرغل (كبِة سفرجلية). يقال إن السلاطين العثمانيين كانوا يرسلون طهاتهم للتجسس على أحدث صيحات الطبخ في حلب.
مصدر رزق
بالنسبة لمعظم النساء، يمثل تحضير الغداء أو العشاء مصدر رزق لهم. تقول ابتسام مستو، وهي لاجئة سورية قابلتها في بيروت "في سوريا، كنا نتقابل جميعاً في الظهيرة وندبّر ما سنطبخه على العشاء،" تحدثت مع الآنسة مستو، وهي في السادسة والثلاثين من عمرها وأم لستة أطفال، فيما كانت تبرم أصابع من اللحم المفروم لعمل كباب هندي. كان هذا في وقت دوامها في مطبخ صغير ملحق باثنتي عشرة طاولة حيث تحضّر الغداء لطاقم وكالة الأمم المتحدة للّاجئين. تقول "قيل لي دائماً أني طباخة ماهرة، لكني لم أظن أنني سأطبخ لكسب عيشي."
لم تظن رنا جبران ذلك أيضاً قبل أن تؤسس شركة لتوريد الطعام، هاني-دو، مع أمها وابنها في شيكاغو. وقد انتقلت إلى شيكاغو عام 2015 من دمشق لتنضم إلى أبنائها. قالت لي: "اعتدنا أن يتردد الناس علينا في دمشق، كانوا يدقّون الباب في أي وقت." كانت ضيافة العائلة والأصدقاء جزءاً من حياتها اليومية.
أخرجت جبران علبة من البسكويت المزين باعتناء قد حضرته مع أمها في اليوم السابق، قالت "عندما يُخبز هذا البسكويت في الفرن، أقول لنفسي "هذه رائحة عيد الفصح". توضّح لي: "امشِ في شوارع دمشق في عيد الفصح وستعرف وحدك أين يتجمع مسيحيو المدينة. يأخذ الناس صواني من هذا البسكويت المنكّه إلى الأفران العامة،" وتملأ الأحياء كلها برائحتها.
لكل رائحة ذكرى
بشكل مشابه، تذكّر رائحة الثوم والبقدونس جبران باحتفالات جيرانها المسلمين في رمضان: "تذكرني بعجلة جيراني وهم ينتهون من التحضيرات الأخيرة للإفطار. إنها رائحة بديعة".
يستخدم الثوم والبقدونس في الكثير من الأطباق السورية، من طبيخ البامية إلى "حراق إصبعه" المشهور، الذي يُترجم إلى "الإصبع المحروق." يمتلئ هذا الطبق المكون من العدس وقطع صغيرة من عجينة شبيهة بالمعكرونة بالطعم الذي تُضفيه شراب التمر الهندي مع الثوم المقلي، البقدونس، والبصل المقلي حتى يجف.
لماذا "حراق إصبعه"؟
تقول أم علي، طبّاخة منزلية بارعة من ضواحي حلب نزحت إلى بيروت مع عائلتها عام 2013 "يقولون إن اسمه حرَّاق إصبعه لأن الفلاحين عندما اخترعوه لم يستطيعوا أن يصبروا عليه حتى يبرد ليأكلوه، فحرق أصابعهم."
لاحظ أبي الشهابي، صديق سوري-فلسطيني يقيم حالياً في ألمانيا، مدى تغير مظاهر الاحتفال برمضان منذ بداية الصراع في سوريا. يتذكّر أبيّ "في سوريا، لم يكن ممكناً أن تتناول الإفطار وحدك." كان هناك جدول متناوب للعائلات: يجتمع الكل في بيوت الأجداد في الليالي الأولى، ثم الشقيق الأكبر سناً وهكذا حتى يستضيف أصغر الأشقاء الإفطار بعد ذلك يتناول الناس الإفطار عند جيرانهم وأصدقائهم.
قال أبيّ "دائماً ما يجلب الحاضرون شيئاً معهم، حلوى، فاكهة، مشاريب، وإن لم تتسع الطاولة لعددنا، نجلس على الأرض”.
نشأ أبيّ في مخيم اليرموك، وهو مخيم اللاجئين غير رسمي على أطراف دمشق، والذي سكن فيه فلسطينيون لما يقارب الستين سنة. في السنوات الأخيرة، شهد مخيم اليرموك قتالاً عنيفاً بين الثوار وقوات موالية للنظام السوري. وكما هو الحال في المناطق المتنازع عليها، استُخدم الغذاء كسلاح حرب، وتمنع قوات الحكومة وصول إمدادات الطعام للمخيّم لكسر إرادة المعارضة.
الطعام كسلاح
كان الجوع وسيلة تستخدمها أيضاً الدولة الإسلامية وجماعات متطرفة وثائرة أخرى. طبقاً للأمم المتحدة، يقع قرابة 600 ألف سوري تحت الحصار، وقرابة تسعة ملايين "توفّر الغذاء لهم غير مستقر". حتى بالنسبة لهؤلاء خارج الحصار، أصبح كل شيء أغلى: الدقيق، زيت الطبخ، اللحم. لا يمكن الاعتماد على وجود الكهرباء، وغالباً ما تنقطع المياه. مع ذلك يحن الكثير من اللاجئين لموطنهم. يقول أبيّ: "على الأقل كنّا كلنا معاً هناك،" في ألمانيا، هو وأخته بمفردهما".
تقدّم هذه القصص، التي يحكيها الطعام، نظرة أكثر حميمية إلى سوريا وشعبها من معظم تقارير الأنباء. بفهم تفاصيل الحياة اليومية –من الطبخ وتناول الطعام، أو عدم القدرة على فعل ذلك- نفهم كل ما تم فقدانه في حرب سوريا. وكما كانت أطباق الطعام أثراً يدل على ماضي سوريا، وبينما تنتشر الجالية السورية عبر العالم، ستُحكى قصة حاضر ومستقبل سوريا في وصفات الطبخ والطريقة التي يطبخ ويأكل بها الناس.
The New York Times