لا يكاد يخلو شارعٌ أو ميدانٌ رئيسيّ في قطاع غزّة من المتسوّلين الذين يستعطفون المارة لإعطائهم مبلغاً من المال ليقضوا حاجيات عائلاتهم المعيشية، لكن الغريب والمستجد في الأمر هو أن التسوّل ما عاد ملجأ المحتاجين للمال فحسب، نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية في القطاع المحاصر. فقد أضحى جزءٌ كبيرٌ من المستولين يمارسونها كمهنة في ظلّ عدم توفر فرص العمل، فيستخدمون أساليب جديدة وغير تقليدية لإقناع الناس ببذل المال، كأن يدّعوا أنهم بحاجةٍ إلى بعض المال للعودة إلى مقرّ إقامتهم بعدما فقدوا أموالهم.
ولا تقتصر على عمليات التسول على جنس أو سن معين، إذ يمارسها الطفل والمرأة والعجوز في غزة. كلٌّ يطلب حسب حاجته، بعدما فتك الفقر بحوالي 320 ألف أسرة ووصلت نسبة البطالة إلى 42 في المئة. فصار تفاقم ظاهرة التسوّل يؤرق المجتمع الغزي، لا سيما أن المواطن لم يعد قادراً على تمييز المحتاج من الممتهن لها، وتوسّع الأمر حدّ تشكيل بعضهم عصابات تقوم بإنزال المتسولين /ات في مناطق مثل حيّ الرمال، ليجمع المال منهم المسؤول عنهم في آخر النهار. التسول اليوم هو نوعٌ من الحرفة يقودها رؤساء عصابات، كلٌ يجتمع صباحاً بفريقه الخاص من المتسولين، ويحدد خطة العمل لليوم، كتوزيع الأماكن جغرافياً وتحديد طريقة للتسول. يتم التوافق بينهم باتفاقٍ شفهيّ، ويكون الالتزام صارماً من قبل الجميع من دون التعدّي من طرف على منطقة طرف آخر. وعمدوا إلى استخدام أسلوب التسوّل المقنّع، الذي يأخذ شكل البيع على مفترقات الطرق بما يخرج عن آداب البيع والشراء، أو تقديم خدمات لأصحاب السيارات.
قصّتا متسوّلتين
البحث عن متسول في غزة أسهل من إيقاف سيارة أجرة لركوبها. بالقرب من أيّ رصيفٍ يقابله محل تجاريّ فاخر، يقف رجلٌ أو تجلس امرأةٌ على الأرض، يحيط بهما طفل، يتنقل من هنا لهناك، كلهم يطلبون أموالاً رافضين الإفصاح عن مكان سكنهم أو حتى قول اسمهم كاملاً. منهم الصادقون، يبحثون عن طعام للأولاد، ومنهم من اتخذوها مهنة، ورثها حتى عن والده، ومنهم من يعمل في نطاق العصابات. مريم ورش آغا هي امرأةٌ ممّن ضاقت بها سبل الحياة في غزة بعد وفاة زوجها. تجلس إلى جانب مخبز العائلات الشهير، لتروي أن سبب لجوئها للتسول هو وفاة زوجها وعدم وجود معيل لأبنائها الخمسة. تشير إلى أنها مستعدة للعمل في أيّ وظيفةٍ حال توفّرها لها وترك التسوّل. وتضيف آغا: «لم تعد أمامي أيّ وسيلة لتوفير الطعام والشراب لأبنائي إلا استجداء عطف الناس لكي يعطوني مبلغاً من المال. ولكي أوفر ذلك، أخرج في صباح كلّ يوم أبحث عن الأماكن التي يقصدها الناس لألتمس رزقي فيها».
وليس بمكان بعيد عنها، بحثت «السفير» عن وارثي التسوّل أباً عن جد. فوجدت فتاةً بعد بحثٍ طويل لأن من يعترفون بأنهم يتخذون من التسول مهنة قلة نادرة جداً. تلك الفتاة هي الشابة سحر، البالغة من العمر 22 عاماً، وقد بدأت قصتها عندما تزوجت من شاب تقدم لها من دون أن تعرف أنه من فئة النوريين، التي تعيش غالبيتها في المقابر في غزة. صدمت بعد شهرين من الزواج بطلب زوجها منها النزول إلى الشارع لممارسة التسول، ما قوبل بالرفض منها.
تحوّل الطلب إلى ضرب، ما دفعها إلى الهروب من المنزل. إلا أنها سريعاً ما عادت لمنزل زوجها بعدما عرفت أنها حامل، وتدخّل العديد من الأطراف متعهدين بعدم إجبارها على التسول. لكن سريعاً ما تحوّلت الوعود إلى أوهام، وراحت تتصاعد تدريجياً ضغوط زوجها للعمل مع أخوات زوجها في التسول. تقول سحر لـ «السفير»: «التسول صار مهنتي اليومية، أقضيها كباقي أصحاب المهن. إذا لم أفعلها، لا أتمكن من تدبير مصاريف منزلي التي أجنيها من الناس». وتضيف: «صحيح أنني خسرت شخصيتي ومكاني بالمجتمع بالإضافة لوالدتي التي قطعت علاقتها بي بعد معرفتها بأني أمارس التسول، إلا أنني حافظت على علاقتي بزوجي وابني الذي رزقت به، وتوصلت لقناعة بأنه لا يوجد شيء عيب في هذه الحياة».
وعن أسلوب جمعها للمال، تقول إنها تقصد المحال التجارية المنتشرة في أرجاء أسواق محافظات قطاع غزة، وتروي لكل صاحب محل قصة مختلفة، فتقول للبعض: «أعطني أي مبلغ، أريد أن أشتري حليباً لأولادي»، بينما تخبر سواهم: «لي إخوة أيتام وأبي وأمي ماتوا ولا يوجد لدينا طعام، أعطني مما أعطاك الله».
بيانات الشرطة وآلية عملها
يبقى الأغرب في التسوّل الراهن بالنسبة إلى ما اعتاده أهل غزة، ما تتبعه العصابات من أساليب مباشرة، كأن يستوقفك طفل أمام مطعم وأن يقول لك: «أعطيني شيكل بدي أشتري عصير»، أو أن يستوقفك شاب في الشارع ويقول: «أنا من خان يونس، أضعت محفظتي وأريد فقط 10 شواكل لكي أعود إلى منزلي»، أو أن تقف امرأةٌ أمام أحد المشافي في غزة باكيةً طالبةً 20 شيكلا بحجة أن ابنتها تريد العلاج وإدارة المستشفى تمنع علاجها لعدم دفعها رسوم الخدمة.
ويبلغ عدد المتسوّلين المتعمدين ممن يندرج غالبيتهم تحت مظلمة العصابات 150 متسولاً /ة، يومية كلّ واحد /ة منهم 400 شيكل. وفي المواسم، ترتفع إلى أضعاف ذلك، بحسب الشرطة. وأكدت مصادر الشرطة لـ «السفير» ضبطها لعصابات تستخدم مثل هذه الأساليب بغرض التسول، بينما تم تحويل الحالات الأخرى التي ثبتت حاجتها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية بغرض توفير المساعدة اللازمة لها، ونقلها من دائرة التسول إلى فئة العاملين. ويقول المدير العام للحماية الاجتماعية في وزارة الشؤون في غزة رياض البيطار إن عدد حالات التسول التي تم رصدها بغزة فقط تزيد عن 300 حالة.
وتشير دراسات أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية في غزة إلى أن بعض المتسولين يمكن أن يحصلوا في اليوم الواحد على ما يتراوح بين 200 إلى 400 شيكل إسرائيلي، وبالتالي فإن المتسول ينظر إلى الأمر كمصدر رزق كبير ولا يكلف عناءً في الوقت نفسه.
ولا تملك الشرطة أرقاماً وإحصائيات دقيقة لعدد المتسولين في قطاع غزة، نظراً لأن ظاهرة التسول أصبحت منتشرة كثيرا في الآونة الأخيرة في مختلف المحافظات في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة واستغلال بعض الأشخاص لظروف الناس المعيشية عبر تشكيل مجموعات تدّعي الفقر والحاجة بهدف الحصول على أموال من الناس. ويقول الناطق باسم الشرطة أيمن البطنيجي إنهم ضبطوا خلال الشهر الماضي في أسبوع واحد في محافظة غزة وحدها، حوالي 70 متسولاً يجري التحقيق معهم بغرض تحويل من يثبت حاجته للشؤون الاجتماعية، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق من يثبت ممارستهم للتسول كمهنة أو ممن يندرجون في دائرة عصابات التسول.
"السفير"