بقلم: د. حسين موسى اليمني (الشراونة)
من المعلوم أن السياسة تلعب دورا مهما في التأثير على الاوضاع الاقتصادية, وحسب قاعدة العلاقات الدولية فإن القوي هو المهيمن والمسيطر على هذه الساحة, فأصبحت الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها هم اللاعبون والمؤثرون على الساحة الدولية فليس من العجب أن تُدمر اقتصاديات دول بأكملها من أجل تحقيق هدف سياسي للولايات المتحدة الامريكية أو حتى لحلفائها, وما معظم الأزمات الاقتصادية التي تعصف بنا مرة تلو الأخرى إلا نتاج الطمع والجشع الامريكي, وكأن العالم بالنسبة لها دُمى تحركها أينما شاءت وكيفما شاءت.
إن المشكلة الروسية الاوكرانية هي صاحبة أحد الأطراف لهذه اللعبة السياسية القذرة, فروسيا تعود إلى الساحة الدولية وخاصة بعد فوز بوتين, والذي رفع من مكانة روسيا والشعب الروسي, فبدأ بوتين يعيد روسيا إلى أمجادها القديمة من خلال زيادة القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية أو حتى سباق التسلح في الفضاء, وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن أطراف الحرب الباردة بدأت بالعودة الى الوجود من جديد, وهناك تخوف حقيقي من زيادة قوة الدب الروسي والذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من كبسة التحكم الدولية, وخاصة بعد تدخلها بالشأن السوري وتأثيرها الملحوظ على الملف الايراني, فوجدت الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا الغربية من الخلاف الروسي الاوكراني ذريعة لهما لزعزعة القوة الاقتصادية الروسية, فبدأ السيناريو الامريكي والذي يستخدم منذ عقود لزيادة القوة الاقتصادية الامريكية على حساب اقتصاديات العالم الأخرى, وهو يعتبر أعظم سلاح استراتيجي اقتصادي يستخدمه الامريكان, ألا وهو ربط العملات العالمية بالدولار, ورغم مطالبة الكثيرين بالعودة إلى نظام الذهب إلا أن الخوف من سقوط اقتصاديات الكثير من الدول أدى الى الانصياع لأوامر الولايات المتحدة, مع جرعات نظرية وعلمية مفادها أن حجم التداولات العالمية لا تكفي لتداولات النقد الذهبي, وهذا أجبر كافة دول العالم على أن تبقى على حالها ضمن النظام الرأسمالي المتآكل خوفا من انهيارها الاقتصادي.
أمريكا تبدأ باستخدام السيناريو وهو رفع مؤشر صرف الدولار بالنسبة للعملات الرئيسية الاخرى وهذا يعني أن أسعار الدولار بالنسبة للدول المستوردة للنفط ارتفع بالمقارنة مع العملة الوطنية, فلو افترضنا أن الدولار مقابل أحد العملات المستوردة للنفط = 15 وحدة نقدية , فإذا كان سعر برميل النفط =100 دولار فهذا يعني أن ذلك البلد يستورده بسعر 100X15=1500 أي أن ذلك البلد يدفع ما مقداره 1500 وحدة نقدية من عملتها مقابل الحصول على برميل النفط.
والآن ماذا يحصل لو ارتفع مؤشر الدولار؟ في حال ارتفاع مؤشر الدولار فإن العملات الأخرى ستنخفض مؤشراتها مقابل الدولار, أي أن الدولة التي افترضناها آنفاً وكان سعر صرف عملتها مقابل الدولار يساوي 15, فبعد ارتفاع المؤشر للدولار ستنخفض عملتها مقابل الدولار لتصبح مثلا بمقدار 20 وحدة نقدية لكل دولار .
ماذا يحصل لسعر النفط بالنسبة لها ؟ 100X20=2000 أي أن سعر النفط ارتفع إلى 2000 وحدة نقدية وهنا تتفاعل قاعدة الطلب والعرض فترى الدول المستوردة للنفط أن سعر النفط في الواقع ارتفع!
إن سعر النفط عالميا قد ارتفع وهذه حقيقة ملموسة, وذلك يؤدي إلى قلة الطلب عليها بسبب ارتفاع أسعارها, وعندما ينخفض الطلب ينخفض السعر وهكذا تستمر هذه الحالة, ومن هذا كله يتبين أن سعر النفط ارتفع دون أن ترفع اوبيك سعر النفط, ودون أن تزيد الكمية الإنتاجية, ولكن السبب الرئيسي يعود إلى ارتفاع مؤشر الدولار مقابل العملات الأخرى, ويستمر النفط بالانخفاض ليتمكن من تغطية الفارق في ارتفاع مؤشر الدولار أمام العملات العالمية, والسبب الرئيسي هو ارتباط العالم كله بالدولار, حتى وصل سعر خام برنت إلى قرابة 73 دولارا للبرميل بعدما كان 110 دولار, إن عدم قدرة اوبك تخفيض الانتاج عن 30 مليون برميل في اليوم أكبر دليل على عدم سيطرتهم على سوق النفط العالمي حيث إن روسيا تنتج قرابة 10.5مليون برميل في اليوم, وفي حال تخفيض اوبك الإنتاج فربما بالمقابل تضطر روسيا إلى زيادة الإنتاج لتغطية الطلب في الاأسواق العالمية وزيادة حصتها السوقية, وهنا ستحصل الضربة القاسية لوابيك بانخفاض حصتها السوقية, و روسيا أيضا تتخوف من تخفيض إنتاجها خشية أن يقابلها زيادة في الانتاج العالمي للنفط، وبالتالي تحقيق مآرب الولايات المتحدة الامريكية بتخفيض الحصة السوقية لروسيا في الأسواق العالمية وضرب الاقتصاد الروسي.
رغم أن ارتفاع مؤشر الدولار يعتبر هدفاً سياسياً لإسقاط الاقتصاد الروسي من خلال تخفيض أسعار النفط ومن ثم حصول عجز في الميزان التجاري الروسي, مع العلم أن حوالي نصف إيرادات الميزانية الروسية تأتي من عائدات النفط والغاز, وهذه الضربة لم تتأثر بها روسيا فحسب, بل أن العالم كله تأثر من هذه السياسة القذرة, و أوبيك هم الآن الأكثر تأثرا بانخفاض وارداتهم بشكل ملحوظ , والقوة الاقتصادية لاوبيك ليس كتلك القوة الروسية, فروسيا بلد إنتاجي وصناعي في كافة الحقول المختلفة, وبالتالي الأولى لأوبك أن يكونوا دولاً منتجة للسلع والخدمات لتفادي مثل هذه الأزمات, ناهيك على ذلك ارتفاع مؤشر الدولار يعتبر مؤشراً سالباً للصادرات الامريكية مع زيادة الواردات إلى امريكا, إلا أن هذا الحدث ينذر بعواقب وخيمة من خلال الاستمرار بارتفاع مؤشر الدولار, وعدم اكتراث الولايات المتحدة الامريكية لهذا الحدث, والتغير في الميزان التجاري ما هو إلا دليل على أن هذه التضحية الجزئية سيتمخض عنها مكاسب مستقبلية عظيمة لأن هناك شيء في الكواليس تسعى إليه الولايات المتحدة الامريكية.
إن إنتاج النفط الصخري حتى لو كان مرتفع التكلفة والاحتياطي النفطي في الولايات المتحدة الامريكية وسلاحها الدولار يجعلها خلال العامين القادمين على قمة الانتاج النفطي لتتحكم هي بالأسعار كما تشاء فإن لم يكن ذلك بطرق مباشرة فإنه سيكون بطرق غير مباشره كهذه الطريقة التي ذكرناها سابقاً وهي رفع مؤشر الدولار, والحل الوحيد هو إزالة تَحَكُم الدولار بالاقتصاد الدولي. والله من وراء القصد وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
*أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية والاقتصادية-رئيس قسم العلوم المالية والإدارية كلية قرطبة الجامعية.