بقلم: د. فريد نعيم محاريق
تعاني مدينة القدس المحتلة من أوضاع اقتصادية متردية جداً منذ احتلالها، و كثير منا من يعرف قيمه القدس السياسيةه والدينية, و لكن قل من يعرف كيف يعيش المقدسيون وفي أي إطار اقتصادي يعيشون, هل هم يعيشون باقتصاد اسرائيل أم باقتصاد السلطة الفلسطينية ؟
وهنا سوف نتطرق إلى مستوى الدخل لدى المقدسي ومستوى الإنفاق ومقارنته باقتصاد اسرائيل واقتصاد فلسطين, كما سنتحدث أيضا عن المعوقات الاقتصادية التى تفرضها اسرائيل على المقدسيين, منها فصل القدس عن الضفة بالجدار العازل والضرائب التى تفرض عليهم, ونسبة الفقر والبطالة, والخدمات التي يتمتعون بها .
إن أكثر ما يرهق المقدسيين هي الضريبة، فالاحتلال الإسرائيلي يفرض عددًا من الضرائب على أهالي القدس في مقدمتها ضريبة على دخل الأفراد والشركات، وضريبة القيمة المضافة التي تحصل بنسبة (17%) من قيمة المبيعات، أما ضريبة الأملاك فهي تحسب بنسبة ( 3.5%) من قيمة الأرض، إضافة إلى ضريبة الأرنونا وتجبى على أساس مساحة الشقق والمحلات التجارية.
يضاف إلى ذلك تحصيل ضريبة من أصحاب العمل بنسبة ( 10%) من الدخل وتسمى رسوم التأمين الوطني، وضريبة أمن الجليل التي فرضت على السكان العرب عقاباً لهم بسبب هجماتهم على يهود الجليل، وضريبة التلفزيون الإسرائيلي وبموجبها يدفع المقدسيون ثلاثمائة دولار سنوياً مقابل استخدامهم للتلفزيون, كما أن جزءًا من تلك الضرائب تتعارض مع القانون الدولي في طريقة التحصيل والصرف على الأهالي، إن مجموع نسبة الضرائب تصل إلى( 35%) من دخل المواطنين، والاحتلال يجمع حوالي ( 35% ) من ميزانيته من الفلسطينيين، ولا يصرف منها سوى ( 5-6%) على الأهالي, أي أن الخدمات التي يحصل عليها المقدسيون لا تتماشي مع الوضع الاقتصادي أو مع قيمة الضريبة التي يدفعونها, فقد أدت الضرائب الباهظة التي فرضت على المقدسيين إلى دفع أكثر من 250 تاجرا في البلدة القديمة من القدس إلى إغلاق محلاتهم التجارية بعد تعرض بعضهم للملاحقة، وتعرض البعض الآخر للحجز على محتويات محالهم ومصادرتها أو الحجز على حساباتهم في البنوك بدعوى أن عليهم ديونا مستحقة بمئات الآلاف من الشواقل لسلطات بلدية الاحتلال والضرائب، إضافة إلى تعرض العديد منهم للاعتقالات ثم المحاكمات التي انتهت ببعضهم إلى سجون الاحتلال.
اما بالنسبة لمستوى الدخل والإنفاق فإنه رغم ارتفاع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في القدس الشرقية مقارنة بنظيره في الضفة الغربية، إلا أن المواطن المقدسي يفرض عليه التكيف مع رقم قياسي أعلى لأسعار المستهلك، وعبء ضريبي أكبر، وهو الأمر الذي ينتقص من القدرة الشرائية الفعلية لأهالي القدس, أي أن المقدسي يحصل على دخل أقل من المواطن الاسرائيلي وأكثر من المواطن الفلسطيني, يدفع المقدسي نفس تكاليف الاسرائيلي من ارتفاع الأسعار والضرائب, و هذا يعني أن المقدسي يعيش في التضخم الاقتصادي دائما.
بالإضافة إلى ما ذكرناه، فإن البطالة من أكبر المشاكل التى تواجه المقدسيين, فنسبة البطالة بين شباب مدينة القدس المحتلة، بلغت أكثر من 31٪, وارتفاع نسبة البطالة يساعد على تدمير ما تبقي من اقتصاد للقدس, و بعد كل ما ذكرناه فإننا نجد أن نسبه الفقر في القدس بلغت نحو 80% للمقدسيين, ولا يتجاوز حجم الاقتصاد العربي داخل " إسرائيل "، ما نسبته 1٪ فقط من مجمل الاقتصاد الإسرائيلي، لذا فإن نسبة البطالة داخل مجتمع واحد يضم العرب واليهود متفاوتة بدرجة كبيرة جداً، ففي الوقت الذي تتجاوز فيه 31٪ لدى الشباب العرب، فإنها تقل عن 5٪ بين الشباب الإسرائيليين .
ويبلغ عدد سكان مدينة القدس داخل الجدار "ضمن حدود الاحتلال الإسرائيلي" نحو 245 ألف نسمة، فيما يبلغ عدد العاملين فيها قرابة 40 ألفاً، وتبلغ نسبة البطالة لحاملي الشهادات الجامعية 25٪، حيث يمنع لأي عربي التقدم لوظيفة حكومية إلا إذا كانت الجامعة التي تخرج منها إسرائيلية أو معترف بها وفق سياساتها وأن يكون متقناً للغة العبرية، حيث لا تعترف هذه المؤسسات والشركات بجامعتي القدس الواقعة في بلدة أبو ديس قضاء القدس، وجامعة القدس المفتوحة "أكبر الجامعات الفلسطينية " والتي لها فروع في كل مدن الضفة.
يعتبر جدار الفصل العنصري العازل الذي بنته "إسرائيل " في عمق الضفة الغربية وفي محيط مدينة القدس المحتلة من أهم العوامل التي تؤثر سلباً على اقتصاد المدينة المقدسة أيضا, فقد أثر بناء الجدار على اقتصاد المقدسيين بشكل كبير, وأعاق التواصل بين القدس والضفة الغربية, كما أعاق وسائل النقل وأثر على قطاع السياحة والآثار، فقد ألحق جدار الفصل العنصري أضراراً بالغة بقطاع السياحة والآثار، منها ما لحق بالمواقع الأثرية، ومنها ما لحق بالحركة السياحية ؛ فتشير التقارير إلى أن الجدار ابتلع الكثير من المواقع الأثرية، التاريخية الفلسطينية، خاصة في مدن : بيت لحم، والقدس، الخليل. وقد حرم كثير من أهل الضفة بزيارة المسجد الاقصى, كما قلل من نسبة النمو التجاري لدى المقدسيين كونهم كانوا يعتمدون على قطاع التجارة بشكل كبيير، وبعد ذلك أصبح سوق العمل في القدس الشرقيّة معزولاً بسبب وضعها الخاصّ، وأصبحت فرص تطويره بالغة الندرة.
إن عدد المؤسسات الاقتصادية العاملة في القدس بلغ عام 2009 (3659) مؤسسة، مقابل بلوغ عددها 3313 مؤسسة عاملة عام 1999، أي أنه خلال عشر سنوات ارتفع عدد المؤسسات في القدس بـ 346 مؤسسة فقط، وهو الأمر الذي لا يتناسب نهائيا مع احتياجات ومتطلبات القدس وأهلها, كما يتعرض الاستثمار والنشاط التجاري في القدس من صعوبات في التمويل والائتمان، سواء لأغراض الاستهلاك، أو الاستثمار، أو التجارة على حد سواء، بسبب عدم وجود فروع للمصارف الفلسطينية في القدس الشرقية (بلدية القدس)، مع وجود عدد قليل من فروع البنوك الاسرائيلية، لا تغطي احتياجات الفلسطينيين الحقيقية، إن وجود المصارف الفلسطينية داخل مدينة القدس يساعد المقدسيين على زيادة نطاق الوصول للخدمات المصرفية، لاسيما خدمة الرهن العقاري (لتوفير مساكن لأهالي القدس)، وحل أزمة السكن الملحة للفلسطينيين في القدس، وتوجيه الأموال لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كوسيلة لإنعاش الاقتصاد المحلي للقدس.
تتواجد في القدس الشرقيّة منطقة صناعيّة واحدة، وهي مهدَّدة اليوم بالإغلاق. تنتشر المنطقة الصناعيّة في وادي الجوز المجاورة للبلدة القديمة في عدد قليل من الشوارع، وينتشر فيها عدد محدود من الصناعات، وعلى رأسها ورش تصليح السيّارات.
إن الإجراءات والقيود الاسرائيلية في القدس الشرقية أدت إلى تراجع مستويات التعليم والعملية التعليمية بأسرها، ما يمثل خطرا بالغا على الشعب الفلسطيني، الذي يمثل الاستثمار في التعليم أهم أولوياته، ليصبح إصلاح رأس المال البشري الفلسطيني تحديا رئيسيا في السنوات المقبلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاسيما القدس المحتلة.
وفي المقابل، فإن الدول العربية ومن خلال الجامعة العربية وقممها الدورية وعدت بدعم القدس وبكافة قطاعاتها بمئات ملايين الدولارات خلال العقود الماضية، لكن ذلك لم يأخذ طريقه للتنفيذ على أرض الواقع، فما أن تنتهي القمة العربية حتى تتبخر هذه الوعود ولا يصل للقدس شيء من هذه المساعدات.
إن اقتصاد القدس الشرقية يجد نفسه في عالم منفصل تمامًا عن كلا الاقتصادين، الفلسطيني والإسرائيلي، اللذين يرتبط ﺑﻬما، فهو غير مدمج في أي منهما، ومع ذلك فإنه يعتمد من الناحية البنيوية على اقتصاد الضفة الغربية لدعم إنتاجه وتجارته في السلع والخدمات ولتوفير فرص العمل، وهو في الوقت نفسه يعتمد قسرًا على الأسواق الإسرائيلية التي يجب أن يخضع للوائحها وأنظمتها والتي تشكِّل مصدرًا للعمالة والتجارة، كما تشكِّل القناة الرئيسية للسياحة المتجهة إلى المدينة.
أدَّت هذه العلاقات المتناقضة والمتعارضة فعليًا إلى ترك اقتصاد القدس الشرقية ليعين نفسه بنفسه ويتدبر أمره في انتظار مصير تنميته اُلمعلَّقة. فهو، من جهة، منفصل عن ولاية السلطة الفلسطينية وخاضع، من جهة ثانية، إن الاحتلال هو المسؤول الأول عن الفقر في القدس وهو يعمل بصورة ممنهجة من أجل ازدياد الفقر لحمل المقدسيين على ترك مدينتهم, والرحيل وبالتالي يكون قد استحوذ على المدينة المقدسة لتصبح لا قدر الله فارغة من سكانها المقدسيين, و هذا ما تطمح له اسرائيل .
*متخصص في الاقتصاد الدولي.