أن تكون فاقداً لنعمة البصر هذا يعني أنك بحاجة إلى أساليب غريبة مختلفة عن الآخرين لتنفيذ مخططات حياتك, ستغسل وجهك صباحاً من دون النظر في المرآة، وستدري كيف ترتدي قميصك وأنت واثق من أنه غير مقلوب على الوجه الآخر, ستخرج من بيتك إلى الشارع وتعلم سبيلك بإحساس حافة الرصيف وملامسة أسوار المنازل, ببساطة حياتك معقدة وليست كباقي الناس, ربما سيكون بمقدورك تعلم تفاصيل الحياة العادية, ولكنك ستقف ضعيفاً هشاً عند حاجز مواكبة العلوم وتطورها, وستكون قليل الحيلة في سبيل التمرد على نقصك إذا تسرب لقلبك هوى القراءة والثقافة.
ثلاثة شبان وفتاة في مقتبل العمر, جمعهم القدر قبل أن يجمعهم مشروع تخرجهم من كلية الهندسة في جامعة النجاح الوطنية لإضاءة السبيل ومساعدة المحتاجين, استطاعوا تصميم طابعة مميزة للغة "بريل" الخاصة بالمكفوفين تختلف تماماً عن الطابعات التقليدية, أرادوا عبرها بناء جسر عبور للكفيف من أجل إيصاله إلى عالم التكنولوجيا والأصالة, معتبرين أن رسالتهم هي إنجاز منتج متميز عربياً وعالمياً, يجمع بين بصيرة الكفيف والتكنولوجيا, ويقود الفكر العربي لبناء مستقبل واعد ينهض بالوضع الحالي.
"طابعة نبض", هي نتاج مجهود ياسمين وجمال وطارق ومحمود, أربعتهم تخرجوا العام الدراسي الفائت, وكانت "نبض" هي مشروعهم الذي عملوا على تطويره من بعد تركهم لمقاعد الجامعة, أما عن سبب اختيارهم لهذا الاسم فتقول ياسمين: "بصيرة الكفيف في قلبه الذي ينبض كل حين, ولأن طابعتنا ستكون بصيرته التي تقوده لدروب العلم والقراءة أسميناها طابعة نبض, لتكون هي نبض بصيرته ونبض قلبه, قلب المكفوف يدق وينبض بالحياة, وطابعة نبض تدق لتنقش الحياة على ورق".
في البداية كانت "نبض" تطبع اللغتين العربية والإنجليزية عن طريق ذاكرة الفلاش, ولكنها فيما بعد تطورت لتشمل مرفقات أخرى عديدة, جعلت من عملية تحويل الكلمات من الكتابة العادية إلى بريل أمرا يسيرا جداً وبأسهل الطرق المتخيلة.
في هذا تتكلم ياسمين عتيق قائلةً: "بدايةً صنعنا طابعة ميكانيكية بأدوات متوفرة لدينا, ولكن الأمر فيما بعد أضحى تحديا بالنسبة لنا, لم نكتفِ بالشق الميكانيكي فجمعنا بينه وبين نظام تحكم برمجي, وهذا الأمر ميز "نبض" عن باقي الطابعات التقليدية, كانت البداية مقتصرة على الطباعة عن طريق ذاكرة الفلاش, وتوقف هنا مشروع تخرجنا ولكننا سعينا عليه وقمنا بتطويره وتحسينه بعد التخرج".
تتابع عتيق (23 عاماً): "عملنا بجهد على فكرتنا, فأضفنا إليها شاشة خاصة بها وأصبحنا نطبع بشكل فوري عبر لوحة مفاتيح, واستمررنا بتحدي التكنولوجيا بضم شبكة إنترنت لا سلكية إلى "نبض" حملت اسمها, وصممنا تطبيق للأجهزة الذكية يقوم بالوصل بين الجهاز و"نبض".
تعزو ياسمين هذا الأمر إلى أن هنالك الكثير من المكفوفين يعلمون كيفية الطباعة على لوحة المفاتيح وأنهم يستطيعون استخدام الأجهزة الذكية, مستشهدةً بالتقاء فريق نبض بأحدهم يمتلك احداها, بالإضافة إلى أن هذه الأجهزة تحتوي على تطبيق يقوم بتحويل الصوت البشري إلى كتابة, وأنهم في الفريق يعملون على استخدام هذه الخاصية.
بعد سنتين من العمل المتواصل, خطا فريق نبض الأسبوع الماضي خطوته الأولى نحو الشهرة والنجاح, باشتراكهم في معرض "صنع في فلسطين", وذلك على إثر انضمامهم إلى الحاضنة التابعة لمؤسسة النيزك للإبداع العلمي, التي كانت من مول مشروعهم ووفرت لهم القطع اللازمة لإتمامه من الخارج أو من الداخل المحتل.
حمل المعرض الذي أدارته النيزك بالاشتراك مع مؤسسة دياكون السويدية شعار "اصنع فرص عملك بدل البحث عنها", بحضور عدد كبير من المستثمرين ورجال الأعمال العرب والأجانب, حيث كان له صدىً رائعاً, فقد قال رئيس مجلس إدارة النيزك عارف الحسيني في حديث له مع قناة الجزيرة: "خلال الأشهر القليلة القادمة سوف نجد بعض هذه المنتجات موجودة في الأسواق, تنتجها شركات فلسطينية بكوادر فلسطينية, يمتلك هذه الشركات الشباب الريادي المبتكر المبدع, وتنتقل من فلسطين إلى الخارج حتى تفتح أسواق جديدة لها".
"نبض" لاقت إشادة واسعة من الحاضرين, فقد قدمت لها عدة عروض من المستثمرين، ويدرس الفريق الآن اختيار العرض الأكثر مناسبةً لهم, ولكنهم ينتظرون الحصول على براءة الاختراع, فمشروعهم جاهز من الناحية العملية والعلمية.
تعود ياسمين للحديث عن براءة الاختراع قائلةً: "نحن حالياً بصدد الحصول على براءة الاختراع من وزارة الاقتصاد, فقد تقدمنا للوزارة منذ أكثر من شهر وننتظر صدور القرار, وما دفعنا لتقديم الطلب هو أننا استخدمنا طرقا في التصنيع تختلف عن الطابعات الأخرى بالجمع بين الميكانيك والتحكم".
لا يقتصر "إبداع" نبض عن حدود طرق الطباعة أو خاصية البرمجية, بل تعداه للوصول إلى التوفير الاقتصادي, فمقارنةً بأسعار الطابعات التقليدية للغة بريل فإن "نبض" تعد رخيصة الثمن وكذلك تتقبل الورق العادي ولا تشترط الورق المقوى لتقوى على النقر.
تسترسل ياسمين ابنة مدينة جنين في الحديث عن الجانب الاقتصادي قائلةً: "لقد أعددنا الجدوى الاقتصادية بالإضافة إلى الخطط المالية والتشغيلية والتسويقية الخاصة بمشروعنا, وتوصلنا إلى أن هنالك فرقا شاسعا بالتكلفة المالية بيننا وبين الطابعات التقليدية, فتلك سعرها خيالي وتحتاج إلى جهاز حاسوب خاص بها وبرنامج خاص كذلك, وهذا البرنامج له اشتراك سنوي خاص بالحاسوب ذاته".
تضيف ياسمين: "صيانة الطابعات التقليدية ليست بالهينة أبداً, فالبرنامج الخاص غير متوفر في فلسطين أو حتى في البلدان العربية, ولذلك نضطر في الحالة التقليدية إلى شراء البرنامج من الغرب, اضف إلى ذلك أن هنالك مشكلة في طباعة اللغة العربية, فلا تكتب على الوجه الصحيح تماماً".
تختم ياسمين حديثها قائلةً: "صحيح أننا غير مخولين بالبوح عن تكلفة "نبض"؛ بسبب عقد شراكتنا مع مؤسسة النيزك, ولكننا نؤكد أن سعرها بمتناول الجميع لأنها لن تكلف في عملية تصميمها الشيء الكثير, فقطعها بسيطة وغير معقدة وبالتالي صيانتها كذلك سهلة ويمكن لأي شخص لديه بعض الخبرة إصلاحها في حال تعطلت, وأضيف على هذا أنها تتمتع بامتيازات أكثر وأقوى من الطابعات الأخرى".
"نبض" تريد الوصول بعيداً كما وصل لويس بريل قبل 99 عاماً, لكي تساعد الكفيف للحصول على كل كتاب وورقة يحتاجها, وأن تواصله المطلق مع العالم والثقافات العديدة لم يعد حلماً, فكما يقول الفريق "بطّل حلم, معنا صار حقيقة", "نبض" قبل أن تقوم بثورة تكنولوجية قامت بثورة إنسانية, فقد وصلت إلى أعماق قلوب المحتاجين.