«في جدال عن الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال، فإن الحلواني كفيل بأن يهزم الطبيب؛ وفي جدال أمام جمهور من الكبار فإن سياسيًّا تسلح بالقدرة الخطابية وحيل الإقناع كفيل بأن يهزم أي مهندس أو عسكري حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور، إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد إقناعًا من أي احتكام إلى العقل».
نستطيع أن نرصد أهمية هذا الكلمات المقتبسة من محاورة «جورجياس» لأفلاطون في عالمنا اليوم، عن طريق ملاحظتنا للكثير من المناقشات المليئة بالمغالطات المنطقية التي يمر معظمها دون أن ينتبه أحدٌ إليها، وفي ظل قلة المعرفة بعلم المنطق يزداد انتشار هذه المغالطات.
ولذلك يقول الفيلسوف شوبنهاور: «يتوجَّب على من يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حيل الخداع، فمن المحتم عليه أن يصادفها ويتعامل معها»، ومن هنا تأتي أهمية الإلمام بأنواع المغالطات المنطقية، حتى يبتعد الشخص عن الطرق المسدودة في أثناء الحوار، ويظهر لخصمه الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبه؛ مما سيجعله يقضي على الحجة الباطلة ويقصيها من ساحة الجدل إقصاءً نهائيًّا.
ولكن تجنب إظهار نفسك بمظهر المتعالم وابتعد قدر الإمكان عن التكلف والحذلقة أثناء شرحك للمغالطة المنطقية الظاهرة في حديث خصمك، والتي سنشرح أكثر أنواعها شيوعًا في تقريرنا.
مغالطة الحجة الشخصية
تعني هذه المغالطة أن يعمد المغالط إلى الطعن في شخص القائل بدلًا من تفنيد قوله، فيبتعد بذلك عن القاعدة التي تقول إن تحديد قيمة صدق العبارة وما يحدد صواب الحجة هو في عامة الأحوال أمر لا علاقة له بقائل العبارة أو الحجة من حيث شخصيته ودوافعه وسيكولوجيته، فعبارة «2+2=4» هي عبارة صحيحة سواء كان قائلها عدوًا، أو مغرضًا، أو معتوهًا.
ويقع الإنسان في هذه المغالطة حين يهاجم في معرض الجدل شخصَ الخصم بدلًا من مهاجمة حجته، فيبدو بالتداعي كأن حجته قد دمغت مثله، ولكن ما يحدث في حقيقة الأمر أن سهام النقد تكون موجهة إلى شخص الخصم فتدميه، ولكن حجته لا تتأثر بتلك السهام وتظل حيةً تُرزق.
للمزيد من الإيضاح نذكر هذا المثال التخيلي:
«أنتم تعرفون جميعًا أن النائب (س) كذَّاب، وغشَّاش، وغير موثوق في ذمته المالية، ومستفيدٌ أول من تخفيض الضرائب، فكيف توافقون على مشروعه الضريبي المطروح؟».
قد يكون النائب (س) كذابًا حقًّا، ومغرضًا، ولديه مصلحة في المشروع الضريبي المطروح للمناقشة، غير أن هذا لا يمس المشروع من حيث هو مشروع، وما هكذا ينبغي أن تُناقش المشروعات، إنما يجب أن نتجه إلى المشروع مباشرةً ونبين ما له وما عليه، لا أن ننصرف إلى شخص القائل بالطعن والتجريح.
مغالطة أنت أيضًا تفعل ذلك
هنا يقلب المغالط الطاولة على خصمه، باعتباره لا يفعل ما يِعظُ به، أو لا يجتنب ما ينهى عنه؛ ويظن المغالط أنه قد تم له بذلك إبطال حجة الخصم ورد سهمه إلى نحره؛ وكأن الخطأ يُشرع الخطأ، أو كأن «خطأن يصنعان صوابًا».
ومن الأمثلة على هذه المغالطة الحوار التالي:
– الأب: أقلع عن التدخين يا بني؛ فهو ضار بالصحة متلف للمال.
– الابن: لست أقبل حجتك يا أبي فقد اعتدت أنت نفسك التدخين حين كنت في مثل سني.
عامةً فإن هذه المغالطة تعمد إلى صرف الانتباه عن حجة الخصم إلى سلوكه، أو إلى أفكاره الأخرى، الراهن منها أو الماضي، ولكن تورط الخصم في ذات الخطأ لن يحول الخطأ إلى صواب، ولا يخرج ذلك عن كونه تشتيتًا لا صلة له بصدق التهمة الأصلية.
وأفضل تصرف يمكنك اتخاذه للرد على هذه المغالطة هو أن تبتسم للطرف الآخر معترفًا، ثم ترده في الحال إلى حجتك الأصلية التي لم يرد عليها بعد، فتكون بذلك قد أحبطته عن تشتيتك وإخراجك من الموضوع.
مغالطة استدرار العطف
لا نقصد بعرض هذه المغالطة التنفير من أن يتصف الإنسان بالعاطفة، فهي صفة نبيلة يتحلى بها كل ذي معدن طيب، ولا بأس باستدرار العطف والشفقة إذا استدعى السياق. إنما يمكن الخطأ في أن تسند إلى العاطفة وظيفة البينة وأن تأخذ الشفقة مأخذ الحجة.
وسنأخذ مثالًا على ذلك، دفاع أحد المحامين أمام القاضي عن متهمة؛ فيقول:
«فلتأخذكم الشفقة بهذه المتهمة يا حضرات القضاة، فإنها إذا أودعت السجن فسوف تتحطم حياتها، وحياة من تقوم برعايتهم، أليس الأولى أن ننقذ حياة لا أن نحطم حياة؟»، ليست الشفقة هنا في غير موضعها فحسب بل لم يذكر الدفاع حال المجني عليه الآن وحال عياله؛ فأصبحت خارجة عن الموضوع.
قد تكون مخاطبة الوجدان مشروعة منطقيًّا، حين يكون الانفعال نفسه هو موضع الحجة أو يكون سببًا ذا صلة بقبول النتيجة، مثل أن يختار شخص شراء نفس الجريدة التي معه مرةً أخرى من بائع ضرير حتى يهون عليه عمله الشريف
.
مغالطة الاحتكام إلى عامة الناس
أساس هذه المغالطة هو الاحتكام إلى الناس بدلًا من الاحتكام إلى العقل، ومحاولة انتزاع التصديق على فكرة معينة بإثارة مشاعر الحشود وعواطفهم بدلًا من تقديم حجة منطقية صائبة، وتكاد أن تكون هذه الطريقة أداةً من أدوات عمل رجال الدعاية والإعلان، فإذا كان «الجميع يعتقد ذلك» أو «الكل يفعل ذلك»، أو «استطلاعات الرأي تشير إلى ذلك» فلا بد أن يكون ذلك صحيحًا.
غير أن التاريخ يعلمنا أن أفكار الأغلبية واعتقاداتهم كثيرًا ما تبين خطؤها الذريع وبطلانها التام، وقد تكرر ذلك بما يكفي لدعم قاعدة تفيد أن قبول الحشود من البشر لقضية معينة على أنها حق لا يقدم ضمانًا عقليًّا بأنها كذلك.
ذلك أن اتساع نطاق الاعتقاد بقضية ما هو أمر غير ذي صلة بصدق القضية ذاتها أو كذبها، إنما يتحدد ذلك بالوسائل العقلانية الخاصة التي تستخدم الأدلة والمعلومات الصحيحة التي يمكن أن تستمد منها النتائج بطريقة منطقية، ويعود رواج هذه المغالطة إلى ميل الكائنات البشرية إلى أن تسلك مسلك الخراف فتنضوي معًا حول المريح والمألوف والسائد.
مغالطة الشخص الذي…
وهذه المغالطة عبارة عن استخدام قصص وتجارب شخصية تبدأ بعبارات شهيرة مثل: (الشخص الذي حدث له…، الشخص الذي جرَّب…)، كبرهان على صحة أمر ما أو استخدام أدلة لم تجمع بطريقة علمية في الحجة، مثل تأكيد أحد الأشخاص أن التدخين غير مضر بدليل أن جده كان يدخن 30 سيجارة في اليوم وعاش طويلًا متمتعًا بصحة جيدة.
والسبب وراء اعتبار تلك الحجج ليست سوى مغالطات، أن التجارب الشخصية تكون حالة واحدة من حالات كثيرة، فلا نستطيع معرفة ما إذا كانت هذه الحالة شاذة أو مشابهة للحالات الأخرى، ففي مثال الجد المدخن سنجد دراسات علمية إحصائية تثبت أن التدخين يسبب سرطان الرئة، وبناءً على البيانات نستنج أن هذه الحالة شاذة، ولكن في أمور أخرى يصعب التفريق بين الحالات الشاذة وغير الشاذة لعدم توفر بيانات كافية.
مغالطة الإحراج الزائف
يقع المرء في هذه المغالطة عندما يبني حجته على افتراض أن هناك خيارين فقط أو نتيجتين ممكنتين لا أكثر، بينما هناك خيارات أو نتائج أخرى، فيغلق بذلك عالم البدائل الممكنة أو الاحتمالات الخاصة بموقف ما، مُبقيًا على خيارين اثنين لا ثالث لهما، أحدهما واضح البطلان والثاني هو رأيه الذي يعتقد في حتمية صحته.
ومن الأمثلة على هذه المغالطة الأقوال التالية:
1- إما أنك معنا، وإما أنك ضدنا.
2- إما أن توافق على خفض الضرائب، وإما أن تكون راضيًا عن الخراب العاجل الذي سيحل بالبلد.
3- إما أن نفرض حظرًا على «س» من الأمور، وإما أن نترك هويتنا وتقاليدنا مهددةً بالخطر.
وتروج هذه المغالطة بصفة خاصة في أقوال الباعة ومندوبي الدعاية الذين يُضيقون على العميل نطاق الخيارات حتى لا يبقى له خيار إلا سلعتهم المعروضة، وتروج أيضًا على ألسنة السياسيين الذين يُحيلون كل من ليس مواليًا لهم إلى عدوٍ مبين، ولا يتركون خانةً للحيادين في منظومتهم التصنيفية.
مغالطة الألفاظ الوجدانية
وفي هذه المغالطة يقدم المغالط المعنى لا في صورة لفظية تعبر عنه، بل في صورة تحرك مشاعر المتلقي نحو اللفظ (إما إيجابًا أو سلبًا) مما يشوش على المتلقي عملية التفكير المنطقي المتعمق في مدلول المفهوم نفسه، فيشغله انفعاله النفسي عن البحث في ذاتيات المفهوم، فبدلًا من أن يتكلم الشخص عن مفهوم الحكمة، يقدمها لك في صورة الضعف وكيف أنها لفظ يناقض الشجاعة فيقول لك: لقد سكتنا عن الظلم كثيرًا يكفي تلك الحكمة الخانعة، وهيا نثور في وجه الظالمين.
من الطبيعي أن تكون الألفاظ التي تصطبغ بصبغة وجدانية جزءًا من لغتنا، فبدونها يصبح حديثنا باهتًا وسخيفًا، لكنها في الوقت نفسه قد تقف عقبةً في سبيل تفكيرنا المنطقي، عن طريق استخدامها من قبل غير الأمناء لتضليل الآخرين.
والحل حتى نتجنب التأثر بتلك المغالطة هو أن ندرب أنفسنا على أن يدخل اللفظ إلى عقولنا أولًا، فنؤجل انفعالاتنا النفسية إلى ما بعد مرحلة تحليلنا الذهني لتلك الألفاظ وإيجاد مدلولاتها الدقيقة، وهذه مسألة ليست صعبة لكنها تحتاج إلى تدريب.
مغالطة أسلوب التعمية والإرباك
وفيها يقوم المغالط بشن ممارسات معينة تهدف إلى إرباك الخصم وجعله يفقد تركيزه وترابطية الموضوع في ذهنه، فيظهر أمام الناس بالعجز والضعف المنطقي، ومن تلك الممارسات:
1- أن يثير في نفسه الغضب أو الشعور بنقصه، فيربك تفكيره وتوجهه.
2- أن يكثر من استفزازه بأكاذيب عن معتقده حتى يدفعه إلى القول الباطل أو السباب، فيوقعه في الخطأ.
3- أن يستعمل معه الألفاظ الغريبة والمصطلحات الشاذة، فيحيره بحيث لا يدري ما يجيب.
4- أن يدس في كلامه الحشو والزوائد الخارجة عن الحد، أو الكلام غير المفهوم أو يطوّل في كلامه تطويلًا مملًا، مما يجعله يفقد الإحاطة بكل موضوعه، وبالتالي يختلط عليه الأمر.
5- أن يرفع صوته ويصرخ ويحرك يديه ويضرب إحداهما بالأخرى، ويقوم ويقعد لكي يربك الخصم.
6- أن يناديه بعبارات تفقده ميزته، وذلك لصحتها في نظر العامة، وهذا ما يستعمله المتخاصمون من القدم مثل الزنديق أو الكافر والمنحل، أو مثلما ينادي بعض الحداثيين الأصوليين بعبارات: المتخلف أو الرجعي.
7- أن يلجأ المغالط إلى توجيه التفكير نحو نقط فرعية لا علاقة لها بالمشكلة الرئيسية، مثل أن يعلق المغالط على صلة قرابة بين صاحب الكلام وبين إحدى الشخصيات المعروفة المحكوم عليها بالسجن مثلًا لشغل الناس عن النظر في الحديث نفسه.
المصدر: ساسة بوست