تتركز كل الأنظار حاليا على وضع الصين الاقتصادي، وينصب الاهتمام على أوضاع البورصة الصينية، وتخفيض السلطات المصرفية قيمة العملة المحلية "اليوان"، وتراجع معدلات النمو السنوية لاقتصاد ظل الأعلى نموا لعقود. وبالطبع تحتل معضلة الديون المتراكمة، خاصة على الشركات والمؤسسات قصب السبق في الاهتمام بالشأن الاقتصادي الصيني، لكن وسط هذا الضجيج المرتبط بوضع ثاني أكبر اقتصاد عالمي، يغفل كثير من المراقبين قضية الديون الشخصية المتراكمة على المستهلكين والأسر الأميركية نتيجة اعتمادهم المفرط على استخدام البطاقات الائتمانية لتأمين احتياجاتهم التي تتجاوز قدراتهم المالية.

وفي هذا السياق، أشارت دراسة حديثه إلى أن إجمالي الديون المتراكمة على المواطنين الأميركيين لمصلحة شركات البطاقات الائتمانية قارب التريليون دولار وبلغ تحديدا 917 مليار دولار العام الماضي، وفقا لصحيفة "الاقتصادية".

ويثير هذ الرقم جدلا شديدا بشأن مدلوله؟ وهل يعد مؤشرا على وضع جيد للاقتصاد الأميركي؟ أم أنه وضع مشابه لما حدث عام 2008 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية؟ وإلى أي مدى يؤكد هذا الرقم الضخم موقف الاقتصاديين المعارضين للإدارة في واشنطن، والقائلين إن معدلات النمو الراهنة للاقتصاد الأميركي لا تكشف عن نمو حقيقي، وإنما هو نمو مصطنع نتيجة طلب زائف مدعوم من قبل شركات البطاقات الائتمانية، ولا يعبر عن عملية إنتاجية حقيقية.

وقبل المضي قدما لتحليل تأثير ذلك في الاقتصاد الأميركي، تجب الإشارة إلى أن تنامي اعتماد المستهلكين على البطاقات الائتمانية لتلبية احتياجاتهم، ظاهرة لا تقف حصرا على المجتمع الأميركي، بل تمتد إلى أوروبا والاقتصادات الناشئة، إلى حد أنها وصلت في بعض البلدان مثل تركيا إلى معدلات خطيرة، بحيث بات بعض المختصين يحذرون من أنها قد تترك بصمات سلبية للغاية على مسيرة الاقتصاد الوطني.

ومع هذا تنال أوضاع المديونية المستحقة لبطاقات الائتمان في الولايات المتحدة أهمية خاصة نظرا للدور المميز الذي يقوم به الاقتصاد الأميركي في المنظومة الاقتصادية العالمية.

وتظهر الدراسة التي أعدتها مؤسسة CardHub ومقرها واشنطن عن ديون المستهلكين في الولايات المتحدة لشركات البطاقات الائتمانية أن تحليل أنماط مستخدمي البطاقات الائتمانية يشير إلى انحدار في الأداء، وإلى توافر أدلة متزايدة تدعم المخاوف من اتجاه متنام للعودة إلى الأنماط الاستهلاكية السيئة في الفترة السابقة لأزمة الركود الاقتصادي الأخير في عام 2008.

وأوضح آندي مور المختص المالي في شركة ماستر كارت، أن الخطر الحقيقي الذي كشفت عنه الدراسة، لا يتعلق فقط بأن ديون مستخدمي البطاقات الائتمانية في الولايات المتحدة، قفزت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي بأكثر من 52 مليار دولار، وإنما الخطورة تكمن في أن متوسط الدين على المستهلك الأميركي في 2015 بلغ مستويات لم نشهدها منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.

فمتوسط دين الأسرة الأميركية التي تستخدم البطاقة الائتمانية بلغ 7879 دولارا أي أقل فقط بـ 500 دولار من نقطة اللا عودة التي تحددها عادة شركات الائتمان باعتبارها المستوى الذي يصعب عنده سداد الدين، ومع هذا فإن البعض يرى في تزايد المديونية على الأفراد والأسر الأميركية المستخدمة بطاقات الائتمان مؤشرا إيجابيا وليس بالضرورة سلبيا.

الدكتور جوزيف نايت أستاذ النقود والمصارف في جامعة اباردين أشار لـ "الاقتصادية"، إلى أنه يمكننا النظر إلى ذلك باعتباره مؤشرا اقتصاديا جيدا لأنه يعني أن المستهلكين يرغبون في إنفاق مزيد من الأموال على الاستهلاك وهذا يشجع النمو الاقتصادي.

وأضاف نايت أن "ارتفاع المديونية المستحقة لبطاقات الائتمان يعني أن معدلات التوظيف مرتفعة والبطالة منخفضة، وبالتالي فإن العجلة الاقتصادية تدور بشكل جيد، لأن رغبة المستهلك - في الاقتصادات عالية التطور - في زيادة استهلاكه الراهن ينبع من إدراكه أن أوضاعه المعيشية المستقبلية ستكون أفضل".

ويعتقد نايت أن انخفاض أسعار النفط والغاز في أميركا لما يزيد على عام، وعدم توقع الأميركيين ارتفاع أسعار الطاقة في المستقبل القريب، يعزز من ثقة المستهلك بشأن قدرته على زيادة الطلب دون أضرار مستقبلية ملموسة.

لكن كثيرا من المختصين المصرفيين يرفضون وجهة النظر تلك، من منطلق أن الزيادة في معدلات التوظيف في الولايات المتحدة، التي بلغت 2.45 مليون وظيفة إضافية العام الماضي، وتراجع معدل البطالة إلى 4.9 في المائة، لم تتواكب مع زيادة في الأجور بل على العكس، فهناك تراجع وإن كان طفيفا في مستوى الأجور، ومن ثم يرى هؤلاء المختصون أنه لا توجد أرضية صلبة تبرر زيادة طلب المستهلك الأميركي واعتماده المفرط على البطاقات الائتمانية لتلبية احتياجاته.

وتقول لـ "الاقتصادية"، الدكتورة لورين اسكاوت أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة سيتي، "إن وجهة النظر التي تقيم زيادة المديونية لمصلحة البطاقات الائتمانية باعتبارها عاملاً إيجابياً تغفل عن حقيقية أن الاقتصاد الأميركي لا يزال في مرحلة التعافي الاقتصادي، ولم يستقر بعد، وأن المجلس الفيدرالي الأميركي يخشى من تراجعات اقتصادية عنيفة، ولهذا السبب قلص إمكانية زيادة أسعار الفائدة بنحو النصف من أربع مرات سنويا إلى مرتين، ومع أي تراجع اقتصادي طفيف، فإن مديونية مستخدمي البطاقات الائتمانية في الولايات المتحدة ستمثل عامل اختلال وضغط كبير على الاقتصاد الوطني".

وأشار اسكاوت إلى أن تحليل أنماط الاستهلاك الأميركي الذي دفع إلى الإفراط في اللجوء لبطاقات الائتمان، يكشف عن أن جزءا كبيرا من الاستهلاك لا يصب في مصلحة قطاع الصناعة أو الخدمات الأميركي، لأن الجزء الأكبر من أموال تلك البطاقات أنفق خلال رحلات سياحية للأميركيين خارج الولايات المتحدة وتحديدا في المكسيك وأميركا اللاتينية، ومن ثم فإنه أقرب إلى استنزاف الأموال من أميركا لمصلحة اقتصادات أخرى.

إلا أن بعض المختصين في مجال البطاقات الائتمانية يرجحون أن زيادة المديونية على مستخدمي تلك البطاقات ظاهرة اقتصادية عالمية لا مفر منها، خاصة في ضوء التسهيلات والمميزات المغرية التي تقدمها الشركات المختلفة لمستخدمي بطاقاتها، كما أن ارتفاع المديونية يعد سلوكا طبيعيا في ظل انخفاض مستوى الأجور عالميا في الوقت الذي تتزايد فيه أسعار السلع والخدمات كافة، مؤكدين أن تنامي المديونية لا يعد المشكلة في حد ذاته، بقدر ما تتعلق المشكلة بالوضع الاقتصادي العام وقدرته على استيعاب تلك الزيادة، والتعامل معها بطريقة اقتصادية سليمة.

وأوضح لـ "الاقتصادية"، ريتشارد ليمون من مجموعة VIRGIN MONEY لبطاقات الائتمان، أن كون ظاهرة تنامي المديونية المستحقة لبطاقات الائتمان ظاهرة عالمية، لا يعني أن تأثيرها متساو على الجميع، فالاقتصاد الأميركي مثلا لديه القدرة على استيعاب التريليون دولار مديونية كما أنه يمتلك من الآليات المالية ما يساعده على الحد من تفاقم الظاهرة أو معالجتها إذا استدعى الوضع، لكن أن تكون مديونية مستخدمي تلك البطاقات في تركيا ورومانيا تفوق نظيرتها في بريطانيا فهنا يجب التوقف والبحث عن حلول جذرية وسريعة للمشكلة.

وتشير البيانات المتاحة إلى أن 56 في المائة من المواطنين الأتراك الذين يمتلكون بطاقات ائتمانية وقعوا في فخ الديون، في الوقت الذي لا تتعدى فيه تلك النسبة 6 في المائة في هولندا والنمسا، وقد تفاقمت المشكلة في تركيا وعديد من الاقتصادات الناشئة جراء تراجع معدلات النمو بعد سنوات من الانتعاش الاقتصادي. 

 

 

 

العربية نت