بعد أن أطبق الجانبان المصري والإسرائيلي حصارهما على قطاع غزة بإغلاق المعابر بينهما بالكامل، لم يجد أهالي القطاع بُداً من ابتداع وسيلٍة جديدٍة لتعويض أرزاقهم التي وُريت في جنبات الإغلاق فأوجدوا الأنفاق الأرضية على طول الحدود المصرية للحصول على السلع والأرزاق.
وعلى مدار ست سنواتٍ ونيف انتعشت التجارة الفلسطينية في القطاع وتنامت حركة البناء والإنشاءات، لكنها ما لبِثت أن توقفت بعد أحداث الثورة المصرية وما تلاها من عمليات تأمين للحدود من قبل الجيش المصري خاصة بعد خلع الرئيس المصري محمد مرسي وتولي عبد الفتاح السيسي زمام البلاد، ناهيك عن قيامه مُؤخراً بإغراق الحدود بمياه البحر، كل ذلك أنهى توالياً ظاهرة الأنفاق وأعدم معه اقتصاد آلاف الأفراد الذين كانوا يعتاشون على البضائع المُهربة عبر الأنفاق.
افتقاد للسلع المهربة
لعلَّ الناظر في أسواق القطاع على مدار العامين السابقين، يجدها وقد خلت بنسبة شبه كاملة من البضائع المصرية سواء التموينية أو الخاصة بقطاع الإنشاءات، أو التجارية، وأكد مواطنون لـ"الحدث"، أن سلع كالدخان المصري، والوقود والأسمنت والحصمة، بالإضافة إلى سلع غذائية ومواد تنظيف، لم تعد موجودة بالأسواق الغزية نتيجة انهيار الأنفاق، مطالبين بضرورة إيجاد حل منصف خاصة في ظل إغلاق المعابر التجارية مع القطاع وارتفاع أسعار السلع المستوردة عبر إسرائيل أو الضفة الغربية.
ويُشير التاجر راضي شعبان، إلى وجود البضائع المصرية في قطاع غزة بات مرهوناً فقط بما يدخل بشكل رسمي من خلال المعابر التجارية، وقال لـ"الحدث": "إغلاق الأنفاق بصورة شبه كاملة خلال العامين الأخيرين حرم القطاع من آلاف السلع التي تتعلق بقطاعي التجارة والإنشاءات، كما حرم الحكومة من أرباح طائلة كانت تجنيها من الضرائب التي تفرضها على كل ما يدخل إلى القطاع عبر الأنفاق".
خسائر كبيرة
ومن جانبه أكد محمود عاشور (45 عاماً) من خان يونس، وهو تاجر أجهزة كهربائية أنه كان يعتمد على الأنفاق للحصول على البضائع المختلفة من الأجهزة والمعدات المنزلية، بسبب انخفاض أسعارها بالمقارنة مع جودتها، لافتاً إلى أنه كان يجني أرباحاً وفيرة، يصمت مُعقباً بألم: "الآن المحل بات خالياً وتكبدت خسائر كبيرة".
يؤكد الرجل أنه منذ توقف الأنفاق عن العمل منتصف 2013 تضررت تجارته جزئياً ولكنه بقي يستقبل بعض البضائع حتى أغرق الجيش المصري منتصف سبتمبر/أيلول 2015 الأنفاق بمياه البحر، يقول: "كنت قد تعاقدت على شُحنة أجهزة كهربائية لفصل الشتاء، لكن إغراق الأنفاق حال دون وصولها". لافتاً إلى عدم وجود أُفق لإعادة فتح الأنفاق أو حتى المعابر الرسمية، ما يُفاقم معاناته.
فيما يُؤكد أحد تُجار الأنفاق، ويُدعى "أبو السعيد" من رفح جنوب قطاع غزة، أنه توقف عن تهريب البضائع إلى قطاع غزة، سواء التي تفرض عليها إسرائيل حظر كالأسمنت والمواد المتعلقة بالبناء، أو التي تفرض عليها الحكومة في غزة ضرائب كبيرة كـ"الدخان المصري، وقطع الغيار".
وانتقد الرجل ادعاءات الجيش المصري باستخدام الأنفاق لتهريب الأسلحة، قائلاً: "لا نُدخل إلا السلع الأساسية التي يحتاجها القطاع ومُنع وصولها بشكل رسمي من خلال المعابر" كـ قطع غيار الدراجات النارية، أسياخ اللحام التي تمنع إسرائيل دخوله نظراً لازدواجية استخدامه، مؤكداً أن من يشتريها منه الحدادون وأصحاب الورش المتعلقة بالصناعات الإنشائية، بالإضافة إلى محركات الأجهزة الكهربائية كالغسالات والثلاجات، لافتاً إلى أن سبب تهريبها ارتفاع أسعارها في غزة نظراً لندرتها، مقارنة مع أسعارها في مصر، وقال: "نجني أرباحاً كبيرة عبر هذه التجارة ومن خلالها نُساعد في تحسين الواقع الاقتصادي لعشرات العمال".
الأنفاق خطيئة اقتصادية
ويصف الباحث الاقتصادي حسن الرضيع، الأنفاق على طول الحدود مع مصر بـ"الخطيئة الاقتصادية الكبرى للحكومة الفلسطينية المُقالة بغزة"، لكنه لم يغفل عن أهميتها من الناحية الإنسانية في توفير المتطلبات الأسياسية لسكان القطاع من السلع التي تمنعها إسرائيل تارة وتفرض عليها قيوداً تارة أُخرى.
ويؤكد أن الأنفاق ساهمت في إدخال آلاف السلع والبضائع وخففت من حدة الأزمة الإنسانية التي عانى منها سُكان القطاع منذ فرض الحصار عليهم عام 2006، وأضاف أن الأنفاق مع استمرار الحصار لم تعد تركز على إدخال السلع الأساسية والضرورية بل توسعت لتشمل السلع التي تمنع إسرائيل دخولها إلى القطاع كالمواد الإنشائية والوقود، لافتاً إلى أنها استحوذت على نسبة (40-50%) من حجم التهريب البالغ سنوياً مليار دولار أمريكي، وبيَّن أن الفروقات الكبيرة في أسعار مواد البناء كانت فرصة للتُجار وأصحاب الأنفاق للمخاطرة بإيصالها إلى القطاع أملاً في تحقيق هامش ربح أعلى خاصة أن تكلفة المواد المهربة تقل بنسبة (30-40%) عن المستوردة التي يتم إدخالها من خلال المعابر الإسرائيلية، وألمح إلى أن هذا الانخفاض ظهر جلياً في انخفاض التكلفة الإجمالية للوحدات السكنية التي تستخدم سلع الأنفاق.
فاقمت مشكلات غزة
وفيما يتعلق بتأثير إغلاق الأنفاق منتصف يونيو 2013 ومن ثمَّ إغراقها في سبتمبر2015 ، أوضح الباحث الاقتصادي "الرضيع"، أنه لم يقتصر على خلو الأسواق الفلسطينية في قطاع غزة من البضائع المصرية سواء الاستهلاكية أو المواد اللازمة للبناء والإنشاءات، وإنما فاقم من المشكلات الاقتصادية والإنسانية التي يُعانيها القطاع على صعيد ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وقال لـ"الحدث" إن الإجراء المصري الأخير أفقد حوالي (100-70) ألف شخص فرص عملهم، كما أفقد اقتصاد غزة قرابة (500) مليون دولار ناهيك عن الخسائر الضريبية التي تكبدتها السلطة الفلسطينية والمقدرة بـ (160-200) مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى أنه الفجوة بين الطلب والعرض على الوحدات السكنية، لافتاً أن تلك الفجوة وصلت إلى 95%، بسبب أن ما يدخل قطاع غزة من مواد ومستلزمات البناء من المعابر الإسرائيلية لا يزيد عن 10% من حاجة السوق، ما أحدث حالة من التدهور في ظل النمو الكبير في الطلب على الوحدات السكنية.
تراجع العلاقات التجارية
وإلى ذلك أكد طارق لبد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الاقتصاد الوطني في غزة، على انخفاض حجم علاقات التبادل التجاري مع مصر بشكل ملحوظ بعد إغلاق الأنفاق وتدميرها بشكل كلي نتيجة إغراقها بمياه البحر في سبتمبر/ أيلول 2015 الماضي، وأوضح لـ"الحدث"، أن ما يدخل من بضائع مصرية الآن يقتصر على ما هو مسموح به عبر معبر كرم أبو سالم وما تُحدده إسرائيل من أصناف وكميات باعتبارها المسيطر على المعبر.
وبيَّن أن ذلك أثر بشكل سلبي على الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، خاصة في ظل الاعتماد الكلي على مدار سنوات الحصار على ما يدخل من الأنفاق، كما أثر على أصحاب الأنفاق بتكبيدهم خسائر كبيرة جداً.
وفي إطار الحلول الجذرية لإغلاق ملف الأنفاق يؤكد لبد، أن الحكومة في غزة وعلى رأسها وزارة الاقتصاد طالما دعت إلى ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية بالتبادل التجاري بالعمل على فتح معبر رفح للسماح بنقل البضائع والأفراد بحرية بين الجانبين كما كان في العام 2005، بالإضافة إلى إنشاء منطقة تجارية حرة مع القطاع، مُشدداً في مقابلة مع "الحدث" على أهمية الخطوة في إيجاد مصالح مشتركة من عملية التبادل التجاري من شأنها أن تنعكس إيجابياً على مصر على الصعيد الاقتصادي، ناهيك عن مساهمتها في رفع الحصار عن القطاع الذي لا زال جاثماً على صدور الغزيين للعام العاشر على التوالي.
حلول
وفي إطار البحث عن حلول لفقدان الأسواق الغزية للبضائع المصرية الاستهلاكية والتي تدخل في قطاعات الصناعة والإنشاءات، يرى الخبير الاقتصادي رجب، أن الظروف السياسية الراهنة بين مصر وقطاع غزة لا تُبشر بحلول تلوح في الأفق، خاصة في ظل الرفض المصري لإحداث حالة من التعاملات الاقتصادية والتبادل التجاري بسبب عدم توحد القيادة الفلسطينية، وقال: "الحل إنهاء الانقسام أولاً وتحقيق مطلب رفع الحصار عن غزة من أجل إيجاد قرار موحد في عمليات التبادل التجاري مع الجانب المصري وتسهيل دخول كافة مستلزمات القطاع من المواد الإنتاجية والاستهلاكية بطرق رسمية"، وأضاف أن الحالة المأساوية التي يُعانيها القطاع على المستوى الاقتصادي في ظل القيود التي تضعها إسرائيل على عمليات التبادل التجاري بين الضفة وغزة، والقيود التي تفرضها على مواصفات وكميات البضائع التي تُورد إلى القطاع، تتطلب استعادة وتحسين العلاقات التجارية مع مصر.
ومن ناحيته شدد الباحث الاقتصادي "الرضيع"، على ضرورة إيجاد حلول إستراتيجية للاقتصاد الغزي مقترحاً العمل على توجيه الاستثمارات لمشاريع البنية التحتية، بالإضافة إلى الاهتمام بالتمويل الميكروي والذي يقوم على إقراض الفقراء والعاطلين عن العمل وإدخالهم بسوق العمل، ناهيك عن إنشاء مناطق صناعية في محافظات قطاع غزة بما يُوفر آلاف من فرص العمل وتنمية للإنتاج الصناعي يمكن من خلاله تلبية احتياجات قطاع غزة وتحديداً في توفير السلع الضرورية من غذاء وملابس وغيرها.
نقلا عن "الحدث"