الاقتصادي- آفاق البيئة والتنمية- عبد الباسط خلف- تفتح" آفاق البيئة والتنمية" ملف بطالة الخريجين مرة أخرى، بالتزامن مع انطلاق موسم الالتحاق بركب الجامعات، وتحاور مسؤولين وتربويين واقتصاديين، مثلما تتابع معطيات ومواقف رسمية ونقابية. وتبحث المجلة عن الحلول الممكنة لتخفيف حدة هذه الظاهرة، وتقدم قراءة تربوية واقتصادية وتنموية لها.
كمثال على ثقل هذه الرحى، تتابع مي إبراهيم، خريجة اللغة العربية، إعلانات التوظيف في سلك التربية والتعليم منذ 8 سنوات، دون أن تتمكن من الحصول على وظيفة معلمة، لكنها مع ذلك تخشى أن تكرر معها تجربة مماثلة لقريبتها التي تقدمت 15 مرة للامتحان نفسه، وقررت في النهاية "التقاعد والكف عن المحاولة".
وقالت مي إنها تُحدث سنوياً بيانات رسمية خاصة ببطالة الخريجين، حتى تكون أكثر واقعية ولا تفرط في الانتظار والحلم، ولتواسي نفسها.
أرقام مقلقلة
أكد مسح معدل البطالة بين المشاركين في القوى العاملة للخريجين الحاملين مؤهل دبلوم متوسط فأعلى في الضفة الغربية حسب التخصص، الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2023، أن البطالة في صفوف حملة اللغات 22.8%، وهو يعني عملياً بحسب مي، أن "تتنافس مع مئات وربما آلاف الخريجين على فرصة يتمية".
ولا تبشر أرقام الجهاز بالخير، فمعدلات البطالة في سلك التعليم 18.9%، و23.2 % في الفنون، و14.9% في فرع العلوم الاجتماعية والسلوكية، و16.8% لحاملي شهادات الصحافة والإعلام، و16.7% لنظرائهم في فرع الأعمال والإدارة، و12.2% لدارسي القانون، و22.2% في العلوم البيولوجية والعلوم المتصلة بها، و23.2% في العلوم الفيزيائية، و20% في الرياضيات والإحصاء. ويعاني البطالة 15.4% من حملة شهادات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، و15.4 في الهندسة والحرف الهندسية، و22.1% في الهندسة المعمارية والبناء، و18.6% في الزراعة، و16.4% في الصحة، و17.2% في الرفاه، وترتفع إلى 23.4% في الخدمات الشخصية، وهي الأقل بـ 0.7 في خدمات الأمن.
30 ألف خريج سنوياً إلى "جيش البطالة"
أفاد رئيس الهيئة الوطنية للاعتماد والجودة والنوعية، د. معمر شتيوي، بأن عدد خريجي الجامعات يفوق سنوياً 40 ألفاً، ولا يستوعب سوق العمل بقطاعاته المختلفة أكثر من 8-9 آلاف في أفضل الحالات.
ورأى شتيوي ضرورة توفر قدرة للطالب الفلسطيني لفهم دقيق للريادة، والعمل على بناء مشروعه الخاص، حتى يصبح الخريج مشغلاً لأقرانه في التخصص.
وأوضح أن "العودة الفنية" إلى الأرض، تتطلب تكاملا بين أدوار المؤسسات التعليمية، ومهام وزارة الزراعة والمؤسسات الأهلية وسياساتها وما تقدمه للمواطنين، وأدوار وزارة الاقتصاد الوطني من سياسات خاصة بالتصدير والتسويق والاستيراد، وصولاً لتحقيق تنمية زراعية، في منطقة غنية بمصادرها وتنوعها الجغرافي والمناخي.
وبيّن شتيوي أن دور الجامعات توفير الكوادر المؤهلة في مجالات الهندسة والبحث والتطوير الزراعي وغيرها، حتى تكون قادرة وشريكة في "إحداث تكاملية" مع السياسات الوطنية لوزارتي الزراعة والاقتصاد الوطني، وتعمل على تحقيقها.
وركّز على ضرورة تشجيع المستمثرين للخريجين، وإسنادهم في فتح آفاق عمل جديدة، نظراً لأن السوق الفلسطيني "هش إلى حد كبير"، ولا يستوعب في أفضل حالاته 8-9 آلاف خريج سنوياً.
وقال إن السوق الفلسطيني لو كان متعدد القطاعات، وبمستثمرين كثر في القطاعات التنموية والصناعية والزراعية والعقار والبناء، فعندئذ كان سيساعد في "إدماج الخريجين" فيه بسهولة وسرعة، ولاحتجنا لخريجين أكثر.
وشدّد على أن الوضع الاقتصادي الحرج للسلطة الفلسطينية، والحصار المالي عليها، يفقدها دورها كأكبر مشغل للخريجين، إذ كانت وزارة التربية والتعليم بمفردها تستوعب سنوياً نحو 2000 خريج، لكن التوظيف الآن في مؤسسات السلطة كلها لا يتعدى 2000، وتركز التوظيف في قطاعات الصحة والتعليم.
وأوضح شتيوي أن إغلاق الوزارة لـ 220 برنامجاً جامعياً، واستحداثها 161 برنامجاً جديداً خاصة في المجالات الرقمي والتقنية والثنائية، كان جزءاً من الحلول.
"التعليم العالي": 60 تخصصاً خارج الخدمة
أكد رئيس وحدة الإرشاد والتوجيه والشؤون الطلابية في وزارة التربية والتعليم العالي، أيمن هودلي، أن الوزارة عملت في ثلاثة اتجاهات للحد من بطالة الخريجين، أولها التوافق مع مؤسسات التعليم العالي على إغلاق 60 تخصصاً أصبح الإقبال عليها ضعيفاً وفرص عملها قليلة.
وأضاف أن الوزارة دعمت "التخصصات الثنائية" التي تجمع بين الدراسة الأكاديمية والتدريب في سوق العمل، كما شجعت "التخصصات التقنية والمهنية".
وبيّن أن توجهات الوزارة واحتياجات السوق وخيارات الطلبة والأهالي تفرز خيارات جديدة تلقائياً، فمثلاً يختار الطلبة في الجامعات بشكل تلقائي تخصصات الحاسوب ومشتقاته، بينما يتراجع الإقبال على بقية الكليات كالهندسة المدنية، والعلوم الإنسانية، ويرتفع على كليات التعليم التقني والمهني، ومراكز التدريب المهني التابعة لوزارة العمل.
وقال هودلي إن الجامعات أصبحت "تُجبر على إغلاق تخصصات ودمج أخرى واستحداث جديدة"، بناء على توجهات الطلبة واحتياجات سوق، مثلما تراجعت نسبة الطلبة الذين يغيرون تخصصاتهم بعد السنة الأولى بنحو 20%.
وأفاد بأن الوزارة لا تسطيع إجبار طلبة يرغبون بدراسة التاريخ مثلاً على تغيير اختيارهم، رغم معرفة الطلبة أنفسهم بعدم وجود فرص لهذا التخصص.
وذكر أن المعضلة تتمثل بوجود كم كبير من خريجي الثانوية العامة، الذين يتوجهون سنوياً نحو التعليم العالي، وغالبيتهم يختارون تخصصاتهم دون تخطيط سليم.
وأشار إلى وجود "تشوه جنسوي في التخصصات"، فغالبية الإناث يتجهن للعلوم الإنسانية والاجتماعية والمهن التعليمية، بينما هناك نقص بين الذكور في تخصصات، مثل: الفيزياء والكيمياء والرياضات.
وكشف عن تراجع الإقبال على التعليم الجامعي العام الماضي، فبعض الجامعات كانت تستقبل 5 آلاف طالب، بينما التحق بها 3 آلاف فقط، وتوقع انخفاض أعداد المسجلين أكثر هذا العام بسبب الأوضاع الاقتصادية.
مجلس التشغيل: الحل ليس سهلاً
أكد المدير التنفيذي للصندوق الفلسطيني للتشغيل عبد الكريم دراغمة، أن جزءاً من حل الأزمة يبدأ من اختيار تخصصات تناسب سوق العمل، ولا تشكل عبئاً إضافياً عليه، خاصة التعليم التقني والمهني والفني.
وأوضح أن وزارة العمل والعاملين في قطاع التشغيل، وكجزء من السياسات العامة عبر القطاعية، يمارسون ضغوطاً لإحداث تحول في برامج الجامعات، والحذر من "التخصصات المشبعة بالبطالة"، ووقف برامج بعينها.
وبيّن دراغمة أن البطالة مرتفعة في صفوف الخريجين، لكنها عموماً ارتفعت بعد الحرب على قطاع غزة، وفقدان 500 ألف فرصة عمل.
واشترط لحل المعضلة، وجود تعاون بين مختلف القطاعات، وتشجيع التوجه إلى التشغيل الذاتي، وخلق واستحداث فرص عمل، ومشاريع ريادية متناهية الصغر، وتأسيس تعاونيات وشراكات.
وكشف أن المجلس يسعى لتأمين موارد مالية بشروط ميسرة وفترة سماح وسداد عالية، لتمويل مشاريع تخلق فرص عمل ومشاريع جديدة، يمكنها إيجاد وظائف لخريجين، وتؤهلهم لدخول سوق العمل، مثلما يدرب الخريجين لاكتساب مهارات جديدة ببرامج مدفوعة.
وذكر أن معظم الخريجين في التخصصات كافة يعانون البطالة، التي تزداد في صفوف النساء.
وربط دراغمة بين البطالة وسياسات الاحتلال، الذي يسيطر على الموارد الذاتية والثروات والحدود والمعابر والاستثمار، ما ينعكس سلباً على الحالة الاقتصادية، وطرده لقرابة 150 ألف عامل مع بدء العدوان على قطاع غزة.
وربط بين البطالة والحالة الاقتصادية، والسياسات العامة المتبعة، مثلما لا تنعزل عن التعليم التقني والمهني الذي لا يشهد بطالة مرتفعة. كما تتقاطع مع فتح أسواق خارجية، والعمل عن بعد، والتحول في المنافسة على العمالة إلى المهارات العالية.
وأوضح أن الصندوق قدم منذ عام 2020 خدمات لنحو 20 ألف مستثمر، غالبيتهم من الخريجين ونصفهم من النساء، عدا عن ألف فرصة في المشاريع القائمة، بجوار مشاريع تمويل وتدريب للخريجين.
وقال إن حل البطالة ليس سهلاً كونها "حالة عالمية"، لكن تقليلها يحتاج شراكة مع قطاعات العمل، والتوجه نحو أنشطة جديدة كالاقتصاد الأخضر، والطاقة، والعمل عن بعد، والتشغيل في الأسواق الخارجية مع ضمانات العودة وعدم الهجرة.
الجلاّد: البطالة "كارثة مجتمعية"
من جانبه، لا يرى عميد كلية الأعمال والاتصال في جامعة النجاح الوطنية، د. رأفت الجلاد، أن وجود خريجين لا يجدون عملاً بتخصصاتهم ويعملون في "قطاعات شبيهة"، بأنه بطالة، مع وجود تخصصات تعاني بشكل مختلف، وفيها عجز بعدد الطلبة الخريجين كتكنولوجيا المعلومات.
واعتبر الجلاد أن "بطالة الخريجين ملف شائك، ولا يمكن تقديم حل سحري لها، وتتصل بالأزمة الهيكلية في الاقتصاد والسياسة والثقافة، خاصة أن التعليم العالي من المقدسات للشعب الفلسطيني، وصار واجباً على العائلة للذكور والإناث اللواتي يستأثرن بنحو 65% من أعداد الطلبة، ولا ينظر له من زاوية اقتصادية وتجارية فقط".
وذكر أن زيادة تكلفة التعليم العالي، يجب أن تكون مقرونة ببرامج تكافل اجتماعي، وقروض ميسرة طويلة المدى، وتدخل الصناديق العربية والإسلامية لدعم غير المقتدرين على إكمال تعليمهم.
وركّز الجلاد على أن الأزمة الاقتصادية انعكست على الجامعات الأهلية والخاصة، فبعضها دفع 70% من رواتب موظفيها، وجزء منها قسّم الفصل الدراسي، ووزّع التعليم بين وجاهي وعن بعد لمساعدة الطلبة في الأزمة، وتوقع تراجع الإقبال على الجامعات هذا العام، بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة.
وأشار إلى أن أزمة البطالة الحالية تحوّلت إلى "بطالة في الخبرات، وليس في الأعداد"، وهو ما يتطلب تغييرات في "مركزية التعليم العالي"، التي سمحت سابقاً بتكرار التخصصات في الجامعات كلها، ما أدى إلى خلق منافسة بين مؤسسات التعليم العالي، مع غياب الدعم الحكومي، ما أفرز وجود خريجين من تخصصات لا أسواق عمل لها.
واشترط عميد كلية الإعمال والاتصال عدم اقتصار الحلول على وضع خطط وبرامج توصيف نظرية وللاستهلاك الإعلامي، بل أن تكون مقرونة بأدوات للتنفيذ وبشبكة حكومية وأهلية وقطاع خاص، تنتهي بمساعدة الخريجين وتثبتهم في أرضهم.
عبد الكريم: الحل تغيير الصورة النمطية للتعليم التقني
ورأى د. حسن عبد الكريم، العميد الأسبق لكلية التربية في جامعة بيرزيت، أن تغيير الصورة النمطية للتعليم العالي الأكاديمي النمطي لصالح التعليم المهني والتقني أمر صعب ومعقد، ويجب أن يبدأ من أولياء الأمور الذين يقررون نيابة عن الطالب.
وأوضح أن نظام التعليم لا يقدم الطالب لمهن وخيارات في المرحلة الابتدائية والأساسية، فيما تعزز صورة أن من يذهب للتعليم المهني والحرفي هم "الأضعف أكاديميًا".
وقال إن تدريب المعلمين على اكتشاف ميول الطلبة المهنية والحرفية في مراحل مبكرة، مسألة ضرورية وتساعدهم في التوجه نحو سوق العمل دون بطالة أو انتظار وظيفة، خاصة أن أصحاب المهن لا يعانون وأوضاعهم الاقتصادية مستقرة، مقارنة بالملتحقين في التخصصات الأكاديمية.
وأشار عبد الكريم إلى أهمية مشاركة الإعلام في "تبديل الصورة النمطية، وتغيير المناهج" لصالح تشجيع اختيار المهن، وتدريب المعلمين على مهارات تحسين الميول المهنية للطلبة، ومشاركة رياض الأطفال في هذه التوجهات، وتعزيز ريادة الأعمال والابتكار والتجارة الإلكترونية.
وأوضح أن الجامعات الفلسطيية تاريخياً، ذات "توجهات أكاديمية ونظرية"، ككليات التربية والعلوم الإنسانية والآداب، وبوسعها تدريب طلبتها على مهارات الحياة.
وقارن عبد الكريم بين خريج بكالوريس نظري لا يجد فرصة أو وظيفة لسنوات، وبين حاصل على دبلوم مهني في صيانة السيارات الهجينة يعمل سريعاً.
معايير نقابية
من جانبها، نشرت نقابة المهندسين تعليمات فنية لخريجي الثانوية العامة، أكدت أن "معدلات النجاح في الثانوية العامة للقبول في تخصصات الهندسة في الجامعات الفلسطينيّة وغير الفلسطينيّة لدرجة البكالوريوس في الفرع العلمي معدل عام (80%) فأعلى أو (80%) فأعلى في (الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء)، بشرط ألا يقل المعدل عن (75%)، والفرع الصناعي وفرع تكنولوجيا المعلومات (80%) فأعلى، اعتباراً من العام الدراسي 2024".
وقالت إنها ستطبق القرار على الطلبة الذين سيباشرون دراسة الهندسة العام الحالي، ولن تقبل تسجيل الذين يقل معدلهم عن النسب المذكورة، سواء كانت دراستهم عادية أو موازية في النقابة، بعد تخرجهم؛ "للحد من انضمام مهندسين جدد إلى سوق البطالة".
من موقعها، وضعت نقابة التمريض والقبالة معايير أكثر صرامة، ونشرت عبر صفحتها الرسمية، عبر "فيسبوك" بياناً، قالت فيه إنه من منطلق المسؤولية تجاه مهنة التمريض والقبالة ومصلحة الوطن، قرر المجلس عدم السماح لخريجي الثانوية العامة بالتقدم لامتحان مزاولة المهنة، ابتداء من الطلبة المسجلين لهذه التخصصات أو المسارات في التمريض للفصل 2024/2025.
وبيّنت النقابة أنه لم يتم إدراج تخصصات التمريض ضمن هيكلية وزارة الصحة، ولعلمها باحتياجات سوق العمل.
وأوضحت أنها لا تتحمل مسؤولية أي طالب يلتحق بهده التخصصات أو المسارات في التمريض.
وحملّت النقابة كامل المسؤولية لوزارة التعليم العالي والكليات، التي سوف تدرس هذه التخصصات.