الاقتصادي - آفاق البيئة والتنمية - جورج كرزم - تسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تدمير واسع النطاق للأراضي الزراعية، إذ تلوثت التربة بشدة من مخلفات القنابل والمتفجرات السامة، ما تسبب في التصحر والتعرية وتدهور الأراضي. صور الأقمار الصناعية تكشف عن أضرار جسيمة لحقت بالأراضي الزراعية والبساتين ومناطق الماشية. أكثر من 80٪ من الأراضي الزراعية في قطاع غزة دُمِّرت أو تعذر الوصول إليها بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية، ما أثر على ما يسمى "الأمن الغذائي" للسكان وفاقم حالة المجاعة التي فرضها الاحتلال على الأهالي.
ويشمل الدمار الأضرار الهيكلية الجسيمة التي لحقت بجودة التربة والغطاء النباتي والبنية التحتية الضرورية للأنشطة الزراعية؛ إذ تآكلت التربة وتدهورت. القصف الإسرائيلي المكثف المتواصل والعمليات العسكرية خربت بنية التربة وضغطتها وتسببت في تآكلها، أي إزالة الطبقة السطحية العليا الغنية بالمواد العضوية والمغذيات، وبالتالي فقدان إنتاجيتها، حيث أصبحت نسبة كبيرة من الأراضي الخصبة قاحلة وغير صالحة للزراعة.
الذخائر الإسرائيلية أدخلت بعدا جديدا من تلوث الأراضي الزراعية في غزة، إذ أن آلاف الذخائر غير المنفجرة تشكل تهديدا مباشرا على المزارعين وما تبقى من الثروة الحيوانية، ما يعوق الوصول إلى الأراضي الصالحة للزراعة. كما أن المعادن الثقيلة والملوثات الكيميائية من المتفجرات تفاقم تلوث التربة، ما يجعل مساحات شاسعة خطرة للاستخدام الزراعي.
موسم قطف الزيتون في قطاع غزة خلال شهري تشرين أول/ أكتوبر وتشرين ثاني/ نوفمبر تعطل تماما بسبب القصف الإسرائيلي المكثف. المزارعون أُجبِروا على الابتعاد عن أراضيهم، وبخاصة الأراضي المحاذية للحدود مع إسرائيل. الطائرات الحربية استهدفت المزارعين الذين حاولوا العودة إلى أراضيهم، علما أن موسم الزيتون يعتبر مناسبة وطنية تجسد ارتباط الفلسطينيين العميق بالأرض، إذ تجتمع خلاله العائلات والأصدقاء معا لقطف الزيتون وغناء الأغاني الشعبية ومشاركة وجبات الطعام تحت الأشجار.
لتدمير الأراضي الزراعية في غزة آثار عميقة على القطاعين النباتي والحيواني، إذ أن غلة المحاصيل انخفضت انخفاضا مخيفا بسبب أنظمة الري التالفة، وانعدام القدرة على الوصول إلى ما تبقى من أراض صالحة للزراعة، بالإضافة إلى التلوث. أما مربو الماشية فيواجهون تحديات مستحيلة في توفير العلف والمأوى الكافيين للحيوانات، وسط دمار هائل في مناطق الرعي، ونفوق معظم الثروة الحيوانية بسبب استهدافها من قبل القوات الإسرائيلية وفقدان الأعلاف. هذا المشهد الزراعي الكارثي فاقم المجاعة في قطاع غزة.
الاستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية الزراعية بالقصف والتدمير والتجريف، بما في ذلك الدفيئات والأراضي الزراعية والبساتين في شمال قطاع غزة، تسبب في تعميق حالة المجاعة التي تستخدم سلاحا لإخضاع فلسطينيي القطاع. التدمير الإسرائيلي واسع النطاق للأراضي والمنشآت الزراعية وتعطيل أنظمة إنتاج الغذاء، يهدف إلى خلق ظروف مواتية للمجاعة الممتدة.
الملوثات والذخائر العسكرية في المساحات الزراعية تشكل خطرا قاتلا على المزارعين وعلى صحة المحاصيل وإنتاجيتها، وتتسبب في تدهور الأراضي وتصحرها وتآكل التربة. التلوث بالمعادن الثقيلة لا يؤثر على التربة فحسب، بل يؤثر أيضا على جودة المحاصيل المزروعة في المنطقة.
الوضع الحالي في قطاع غزة مرعب وكارثي، إذ يواجه أكثر من مليوني شخص المجاعة بمستويات متفاوتة. النساء الحوامل يفتقرن إلى التغذية والرعاية الصحية، ما يعرض حياتهن للخطر. الأطفال دون سن الخامسة معرضون بشكل كبير لخطر سوء التغذية الحاد.
قبل العدوان الحالي، كان مزارعو قطاع غزة، وبخاصة في المناطق المحاذية للحدود، يخاطرون بحياتهم أثناء عملهم في أراضيهم. لكن الآن، مع النزوح والغارات الجوية المستمرة والهجوم البري، أصبحت العودة إلى أراضيهم شبه مستحيلة. الطائرات الحربية والمدفعية والدبابات الإسرائيلية استهدفت وتستهدف المزارعين الذين يحاولون العودة إلى أراضيهم، فضلا عن أن الخسائر في أرواح المزارعين وسبل عيشهم هائلة.
عشية العدوان.. دروس مستفادة من الماضي
للأسف، منذ سنوات طويلة قبل العدوان الدموي الحالي، لم تقدم حكومة غزة (منذ الانقسام عام 2007) خطابا اقتصاديا يختلف في جوهره عن الحكومات السابقة سوى ما يتعلق بـ"حماية المنتج الوطني"؛ علما أن شعار الحماية الذي رفعته حكومة غزة جاء بدافع الحاجة لتقليل الاستهلاك، بسبب الحصار، وليس بدافع تشجيع الإنتاج الوطني الذي يفتقر إلى الموارد الأولية الخاضعة للحصار، بما في ذلك مدخلات الانتاج اللازمة للزراعات الكيميائية الشائعة في قطاع غزة. بل إن حكومة غزة لم تستثمر في أراضي "المحررات" (الأراضي التي انسحبت منها قوات الاحتلال عام 2005)، علما أن الأخيرة تعد من أخصب الأراضي الزراعية في قطاع غزة، وهي بمعظمها (أكثر من 95%) أراض حكومية؛ وجل ما فعلته حكومة غزة هو تأجير بعض هذه الأراضي لمستثمرين ومزارعين كبار، أو استخدامها لتدريب قوات الأمن والفصائل المقاتلة.
إذن، لم تلتقط حكومة غزة فرصة الحصار الإسرائيلي التجويعي وتستثمرها باتجاه توفير الحد الأدنى من السيادة الوطنية على الغذاء، من خلال إجراء تغيير جذري في التركيب المحصولي بما يتسق مع حالة الحصار، بل ظلت عقلية الانتاج بهدف التصدير هي المهيمنة. وفي المحصلة، تشابه النموذجان الحكوميان في رام الله وغزة في الجوهر، من حيث إخضاع الاقتصاد المحلي لفوضى السوق الحر.
علاوة على ذلك، وكما حال الضفة الغربية، لا تزال الزراعات المعتمدة على المبيدات والأسمدة الكيميائية هي المهيمنة في قطاع غزة، رغم أن المستفيد الفعلي الوحيد من السلع الزراعية الكيميائية هم تجار المبيدات ووكلاء الشركات ومتلقو العمولات المنتفعون من مواصلة الترويج لاستعمال الكيماويات الزراعية الممرضة والقاتلة للإنسان والبيئة؛ لذا يعمد الأخيرون، وبعجرفة غير مفهومة، إلى التشكيك بالزراعات البلدية أو العضوية أو البيئية النظيفة.
كل هذا يحدث رغم أن العديد من "خبراء" الزراعة الفلسطينيين يقرون بأن المنتجات العضوية والبلدية نظيفة وخالية من الكيماويات، وبأن بعض الدول الأوروبية قطعت شوطا متقدما في إنتاجها، إلا أنهم "يستكثرونها" على الناس العاديين في الأراضي المحتلة عام 1967؛ علما أن إنتاج هذه السلع الزراعية النظيفة، في المستوى الفلسطيني، يمكنه الاستناد إلى التقاليد الانتاجية المحلية والتراث الزراعي البلدي والطبيعي المتنوع والمتداخل، بمعنى المراكمة على التجارب والمعارف الزراعية المحلية الحكيمة والغنية وإغنائها وتطويرها.
إن من أهم الأسباب التي تجعل الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي معرضا للصدمات (وبخاصة في أوقات الحروب والحصار) هو افتقاره إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود والمقاومة ومواجهة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت الاقتصاد والسوق الفلسطينيين؛ لذا فإن هذا الانتاج غير حصين وحساس جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، ما يهدد مستقبل وجوده.
خلال عدوانه أباد الاحتلال الإسرائيلي مزارع الدواجن والخضراوات بالكامل في شمال قطاع غزة- خاص
آفاق وحلول
لتدمير الأراضي الزراعية في قطاع غزة، بسبب العدوان الإسرائيلي، عواقب بعيدة المدى على إنتاج الغذاء وسبل العيش في المنطقة. الحاجة لاتخاذ إجراءات عاجلة لإعادة تأهيل الأراضي المتضررة ملحة وفورية، كذلك الدعم السريع للمزارعين المتضررين من العدوان، وضمان ممارسات التنمية الإنتاجية المستدامة من أجل تعزيز القدرة على الصمود على المدى الطويل.
ومن خلال منح الأولوية لاستعادة النظام البيئي والاستثمار في الحلول المبتكرة، يمكن لقطاع غزة التغلب على التحديات الهائلة التي يفرضها الدمار الناجم عن العدوان وتمهيد الطريق لمستقبل أكثر استدامة.
معالجة دمار الأراضي الزراعية في قطاع غزة وتلوث التربة والأضرار الهيكلية وانعدام السيادة الغذائية، تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة. الحلول الوطنية البيئية والتنموية والاقتصادية المستدامة المدعومة بالتعاون مع المؤسسات والدول الداعمة للشعب الفلسطيني، يمكن أن تساعد في إعادة تأهيل القطاع الزراعي وتخفيف معاناة الفلسطينيين في القطاع.
والمسألة الأهم، أن جهود إعادة التأهيل ينبغي أن تركز على استعادة خصوبة التربة من خلال تقنيات المعالجة الطبيعية، وإزالة التلوث من المناطق الملوثة، وإعادة بناء البنية التحتية الأساسية للأنشطة الزراعية، فضلا عن إعادة التحريج وتدابير التحكم في التعرية لإعادة تأهيل التربة.
كما أن تعزيز ممارسات الزراعة المستدامة، مثل الزراعات البيئية أو العضوية وأساليب حفظ المياه، تساعد في التخفيف من حدة التدهور البيئي مع تعزيز السيادة الوطنية على الغذاء.
ولتعزيز الإنتاجية الزراعية يجب تحسين الوصول إلى المياه وأنظمة الري والاستخدام الفعال للمياه، وإعادة تأهيل محطات تحلية المياه.
علاوة على ذلك، تعزيز السيادة الغذائية يتطلب تنويع المحاصيل وتشجيع المحاصيل المقاومة للظروف المناخية المتطرفة وبالتالي تقليل المخاطر. والأهم من ذلك، تكثيف العمل الاستراتيجي لجمع وإكثار وتنويع البذور المحلية الأصيلة وإعادة إنتاجها محليا، لضمان السيادة الغذائية الوطنية الحقيقية، وبخاصة في ظروف الحرب والكوارث، بدل الاعتماد على البذور الصناعية المهجنة المستوردة من السوق الإسرائيلي والخارج، كما كان الحال حتى ما قبل العدوان الإسرائيلي، وبالتالي تحكم الخارج في عملية إطعام الناس وتجويعهم.
وفي ظروف الحصار والتجويع، المبادرات المجتمعية وإشراك الشرائح الشبابية المحلية في ممارسات الزراعة المستدامة، وتنمية القدرات، تكتسب أهمية قصوى في إيجاد حلول طويلة الأجل.