في مكتباتنا الجامعية في فلسطين، أبحاث ودراسات ورسائل ماجستير بالآلاف، وبضع رسائل دكتوراة، كلها تحمل في صفحاتها الأولى إقرارا يكاد نصه يكون موحدا "أقر بأن ما اشتملت عليه هذه الرسالة إنما هو نتاج جهدي الخاص باستثناء ما تمت الإشارة إليه حيثما ورد وأن هذه الرسالة كاملة، أو أي جزء منها لم يُقدم من قبل لنيل أي درجة أو لقب علمي أو بحثي لدى أي مؤسسة تعليمية أو بحثية أخرى".
إلى أي حد يلتزم الباحثون بهذا الإقرار؟ ولأي درجة تحضر أخلاقيات البحث العلمي مجتمعة في دراساتنا؟ هل فعلا ما يرد هو من نتاج الباحثين الشخصي؟ هل تحضر قيم النزاهة والموضوعية؟ وهل يحافظ الباحثون على سرية المعلومات كجزء أساسي من الأخلاقيات؟
أخلاقيات البحث
تستند الكتب والأدلة التي تتحدث عن أخلاقيات البحث العلمي إلى تعريف الأخلاقيات ابتداء من تعريف البحث العلمي نفسه واعتبارا الالتزام بالأخلاقيات جزءا أساسيا من بداية عملية البحث حتى نهايتها وإعلان نتائجها.
ومن التعريفات التي تشير بشكل أساسي إلى الأخلاقيات في البحث العلمي وفق كتاب أخلاقيات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية لسعيد جاسم الأسدي هو "المحاولة الدقيقة الناقدة للتوصل إلى حلول للمشكلات التي تؤرق البشرية، عن طريق الاستخدام المنظم لأدوات وطرائق خارجية بغية التوصل إلى الحل المناسب لمشكلة معينة، بصورة أفضل مما يمكن التوصل إليه لو استخدمت وسائل أخرى اقل دقة وتنظيما".
التعريف السابق يبدأ من الدقة وهي نقطة جوهرية في أخلاقيات البحث العلمي، واذا خلى البحث من هذا البند فإن النتائج لا يمكن تعميمها على اعتبار أن ما تم التوصل إليه في مجمله ليس دقيقا.
كما تحدث التعريف ذاته عن الاستخدام المنظم لأدوات البحث وكل هذا التنظيم من شأنه أن يؤدي إلى نتائج أكثر دقة، كما أن استخدام أداة بحث دون غيرها قد يؤدي إلى نتائج مغايرة، ويدخل في صلب الأخلاقيات ان يختار الباحث الأدوات المناسبة لموضوع بحثه.
وتتطرق تعريفات أخرى إلى الموضوعية في البحث العلمي، والحفاظ على الخصوصية وسرية المعلومات، باعتبار كل ذلك جزءا أساسيا من اخلاقيات البحث.
الأخلاقيات في دليل
الأخلاقيات في البحث العلمي بالنسبة للجامعات ومؤسسات البحث تشبه الدستور في الدول، ودستور البحث غالبا ما يكون مكتوبا في دليل خاص، ويبقى الأهم دوما هو مدى الالتزام بهذا الدستور الأخلاقي.
وبالنظر إلى ما توفره الجامعات من معلومات يتبين أن الكثير منها وضعت موضوع الأخلاقيات في دليل خاص للباحثين وجامعات أخرى خلت من هذا الدليل واكتفت بإشارات موجزة للأخلاقيات ضمن دليل الدراسات العليا.
وتتنوع المعلومات الواردة في تلك الأدلة، لكنها في غالبها تجمل كافة القضايا المتعلقة بأخلاقيات البحث، لكن يبقى السؤال الأهم: هل تمتلك الجامعات القدرة على التحقق من التزام الباحثين بأخلاقيات البحث خلال إجراء دراساتهم؟ فالدليل وحده لن يكون كافيا دون وجود ضوابط صارمة وملزمة لتنفيذه والالتزام بما جاء فيه.
أبحاث للبيع
الحصول على أبحاث ودراسات في مختلف حقول العلم مقابل مبالغ مالية لم يعد صعبا، فبعض معارض القرطاسية باتت تقدم هذه الخدمات، ويمكن الحصول على الأبحاث المطلوبة مقابل مبالغ مالية تحدد قيمتها حسب حجم البحث، والعاملون في تلك المعارض على استعداد للسير مع طالبي الخدمات خطوةً بخطوة، ووفق تجربة عملية يخبرك الموظف المسؤول عن هذه الخدمة بأنهم يسيرون معك وفق ما يطلبه محاضر المساق الدراسي، وإذا طلب في أسبوع محدد خطة البحث فإنه يتم تجهيزها في الموعد المحدد وهكذا حتى التسليم النهائي للبحث، ويصل الأمر إلى إعداد رسائل ماجستير كاملة مقابل مبالغ تصل إلى 1000 دولار أميركي وربما أكثر أو أقل حسب حجم الرسالة وموضوعها.
مثل هذه الخدمات التي تتجاوز كل أخلاقيات البحث العلمي لم تعد مقتصرة على معارض القرطاسية بل انتقلت إلى الانترنت، وأصبحت هناك مواقع متخصصة تبيع هذه الخدمات بشكل علني على عكس المعارض التي تحرص على نوع من السرية، وتبيع بعض مواقع الانترنت هذه الخدمات بسعر يبدأ من 5 دولارات فقط ويزيد المبلغ مع زيادة حجم البحث ونوعه.
ومن الخدمات المعروضة في أحد المواقع يرد النص التالي "سأقوم بعمل أي بحث تريده، سواء للمرحلة المدرسية أو المرحلة الجامعية، باللغة العربية أو الانجليزية بلغة تناسب المرحلة، وعلامات ترقيم سليمة. بالإضافة الى تنسيق البحث بحيث يكون جاهزا للطباعة (2 سم هوامش - 1 سم بين السطور – 1.5 سم بين كل قطعة وأخرى، بالاضافة الى تصميم غلاف ملائم للبحث عليه اسم الطالب/ الطالبة-التاريخ- اسم المعلم/ المعلمة المشرف على البحث، البحث يكون بأي صيغة يرغب بها المشتري: ملف وورد - بي دي اف - بوربوينت، كل 600 كلمة بـ 5$ فقط اذا كان البحث باللغة العربية، أما اذا كان بالانجليزية فإن كل 300 كلمة بـ 5$ فقط، تصميم غلاف البحث هدية مني ولا يدخل ضمن التسعيرة".
وتتعدد الأمثلة على هذا الانهيار الأخلاقي في المجال العلمي، في الجريدة الإعلانية ذاتها ورد الإعلان التالي "إعداد أبحاث، هل لديك بحث أو مشروع علمي؟ هل لديك تقرير عن موضوع معين؟ هل لديك مشروع تحليل بيانات؟ نحن لدينا الحل".
سرية المعلومات والخصوصية
الحفاظ على خصوصية عينات البحث والأشخاص المشاركين في الدراسات جزء أساسي من أخلاقيات البحث العلمي، وهذا الجانب أيضا ربما يتعرض لانتهاكات من قبل بعض الباحثين الذين لا يترددون في الحديث مع الأصدقاء عن آراء بعض المفحوصين وتسميتهم بالأسماء، كما أن بعض الاستبيانات التي توزع على الناس لا تذكر أن من حق الشخص الامتناع عن إجابة الاستبيان أو الانسحاب منه، ويعتقد المفحوصين أن اجابتهم على الاستبيان أمرا إلزاميا.
وبالإطلاع على مجموعة من الاستبيانات في رسائل الماجستير يغيب هذا البند ويكتفي الباحثون بالإشارة إلى موضوع السرية، ومما جاء في أحد النصوص بهذا الخصوص "نحن بصدد عمل دراسة حول وسائل الإعلام الفلسطيني وأثرها في الانقسام السياسي والمؤسسي 2006– 2009 ، تتضمن الاستبانة مجموعة من العبارات يرجى منك أن تقرأها بعناية ثم تجيب عنها بواقعية وموضوعية حتى نتوصل إلى نتائج واقعية علما بأنه سيتم التعامل مع بيانات هذه الاستبانة بسرية تامة ولن تستخدم إلا لغرض البحث العلمي فقط".
مثل هذا النص لا يوضح حقوق الأشخاص المفحوصين، ويتم التعامل مع عينة الدراسة كأنها مُلك الباحث، ولم يتم الإشارة إلى أن الإجابة طوعية وليست إلزامية.
وفي موضوع الاستبيانات أيضا يلجأ باحثون إلى تعبئة الاستبيانات بأنفسهم الأمر الذي يفقد نتائج البحث كل المصداقية، وأقر باحثون طلبوا عدم ذكر أسمائهم أنهم بالفعل لم يقوموا بتوزيع مجموعات كبيرة من استطلاعات خاصة بأبحاثهم وقاموا بتعبئة البيانات بأنفسهم إما تكاسلا أو لصعوبة الوصول إلى عينات الدراسة.
ويلجأ آخرون إلى توزيع الاستبيانات بطريقة عشوائية الأمر الذي يوسع هامش الخطأ، ولا يتم اختيار عينات البحث بدقة.
ان الأخلاقيات هي الدستور في أي بحث علمي، فأي انتهاك لهذا الدستور يجب أن يكون مقرونا بعقوبة تصل إلى حرمان الباحث الذي يثبت تورطه من الدرجة العلمية التي قدم بحثه لها، أو حتى إنهاء علاقته بالكامل مع المؤسسة سواء كانت جامعة أو مركز دراسات وتوصية المؤسسات المماثلة بعدم قبول طلب الباحث بالانضمام إليها، وفي مثل هذا الحالة فإن العقوبة الرادعة قد تكون كفيلة بالحد من ظاهرة الانقاض على جهد الغير.
مطلوب من الجامعات والمؤسسات العلمية تطوير برامجها الإلكترونية بحيث تكون قادرة على تمييز الجهد الخاص من جهد "الاقتباسات" أو السرقة العلمية الكاملة، بالإضافة إلى ضرورة اعتبار بيع الأبحاث والدراسات عبر "معارض القرطاسية" أو من خلال الانترنت جرما يحاسب عليه القانون، وهذا الأمر يستدعي تدخل وزارة التربية والتعليم العالي والأجهزة المختصة لضبط الأمور ومنع مثل هذه المظاهر المسيئة للعملية التعليمية.
أما الباحثون فمدعوون لتطوير معرفتهم في مجال أخلاقيات البحث وتحويل المعرفة النظرية إلى واقع ملموس يمارس في العملية البحثية بالكامل.
عن "الحياة الجديدة"