الاقتصادي - آفاق البيئة والتنمية - فراس الطويل: قبيل أربعة أيام من أعياد الميلاد، أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنت وزارة الصحة وفاة الطفل فارس بنورة في بيت ساحور قرب بيت لحم، ولم تمضِ ساعات حتى لحقت الطفلة مايا بشقيقها، فيما نُقل شقيقهما الثالث برفقة الأم والأب إلى المستشفى.
أما السبب، فأرجعته الوزارة إلى وجود غاز "الفوسفين" السام في شقة الأسرة.
حُوّل الطفلان للتشريح، فيما أعلنت الشرطة بعد ساعات من الواقعة، احتجاز صاحب متجر ابتاع منه شخصٌ مادة الفوسفين للقضاء على الحشرات.
غاز الفوسفين أو ما يُسمى بــ "القاتل الصامت"، مصنّف على أنه "مقيد الاستخدام" وغير متاح للعامّة في فلسطين، نظرًا لخطورته الشديدة على الإنسان. لكنه مع ذلك، وصل إلى يد مواطن "غير مؤهل" لاستخدامه قرب منزل العائلة المكلومة، ما أدى إلى وقوع المأساة.
كيف لغازٍ بهذه الخطورة أن يُستخدم في المنازل؟ وماذا عن الإجراءات الرقابية؟ وما حاجتنا في مناطق السلطة الفلسطينية لمثل هذا الغاز؟
أسئلة تعيد مجلة "آفاق البيئة والتنمية" طرحها بعد مرور أكثر من شهر على "فاجعة الفوسفين".
ما هو الفوسفين؟ وما هي استخداماته؟
هو مركب كيميائي، ينتج عن "فوسفيد الألمنيوم" بعد تفاعله مع بخار الجو، يُستخدم لمكافحة الحشرات والآفات الموجودة في الأغذية، وبخاصةٍ الحبوب والبقوليات والتمور، وفق سامر صوالحة رئيس قسم مكافحة الحشرات والقوارض في وزارة الصحة.
ويوضح صوالحة لمراسل "آفاق البيئة والتنمية"، أن سعر مبيد الفوسفين رخيص، وسهل الاستخدام، وفعال في القضاء على الآفات والحشرات دون أن يترك أثرًا على المواد الغذائية، مثل الأرز والقمح والحبوب الأخرى التي تكون عرضة للآفات والحشرات في أثناء أنشطة التصدير والاستيراد، فتُوضع أقراص الفوسفين في أماكن مغلقة، ومن ثم تتفاعل مع بخار الماء، وتؤدي إلى قتل الحشرات واليرقات، وبعد فترة (5 أيام) يذهب أثر الغاز السام.
تكمن أهميته من وجهة نظر صوالحة، في أنه "يساعد في منع انتقال الآفات والأمراض بين الدول بواسطة الأغذية، وهو لا يؤثر على صحة الإنسان إذا اُستخدم بالشكل الصحيح".
لكن المشكلة الكبرى تكمن في سميّته العالية للإنسان في حالات سوء الاستخدام في أماكن غير مغلقة، من قِبل أشخاص غير مؤهلين ومدربين على استخدامه. لذلك هو المبيد الوحيد المصنف على أنه "مقيد الاستخدام" في لائحة المبيدات المسموح بتداولها، الصادرة عن وزارة الزراعة الفلسطينية.
يخبرنا صوالحة، أن استخدام المبيد مسموح به في مناطق السلطة الفلسطينية منذ زمن بعيد ضمن ضوابط "صارمة"، مشيرًا إلى أن اللجنة العلمية (وهو عضو فيها) وضعت هذا المبيد تحت أنظارها، وصنّفته على أنه من المبيدات شديدة الخطورة.
وفي أبريل/ نيسان 2022، صدر دليل الإجراءات الخاص بالمبيدات (غير منشور)، الذي منع استخدام الفوسفين إلا من أشخاص مدربين (مهندسين زراعيين).
ويُستورد بكميات محددة يُوافق عليها من وزارة الزراعة. وحسب الدليل، يُمنع استخدام الفوسفين داخل التجمعات السكنية أو بالقرب منها، ويجب الابتعاد 30 مترًا عنها، ويُمنع كذلك دخول الأشخاص إلى الأماكن التي تُبّخر بالغاز.
وعن كيفية وصول الغاز السام إلى أيدي مواطنين غير مؤهلين، أقرّ صوالحة بوجود مخالفاتٍ بشأن استخدامه في أماكن سكنية من أشخاص غير مدربين، وأضاف: "شخص حاصل على ترخيص باعه لشخص ثانٍ ثم لثالث، وبذلك اُستخدم بطريقة خاطئة، هكذا تحصل المخالفات".
وفي سؤاله عن مستجدات فاجعة بيت ساحور، قال صوالحة إن الملف يمثل أمام القضاء "ما لدينا الآن حالتا وفاة تزامنتا مع وجود غاز الفوسفين، الكلمة الأخيرة للقضاء".
وبخصوص الرقابة على التداول والاستخدام، فهي من مسؤولية وزارة الزراعة التي تتولى مهمة الرقابة على المبيدات عمومًا، كما يقول.
وحسب الإجراءات المتبعة، يُمنع تداول هذه المبيد في كل المَحال، إلا إذا كان لديها شخص مرخص لبيعه، وغالبًا يكون هذا الشخص مهندسًا زراعيًا حاصلًا على ترخيص وزارة الزراعة.
"ولكن ما الذي يدفع أشخاصًا عاديين لاستخدام غاز سام قاتل؟" يذكر رئيس قسم مكافحة الحشرات والقوارض، أنه يُستخدم في القضاء على "العث" وبقّ الفراش في المنازل، وهذه طريقة خاطئة، إذ تطلب وزارة الصحة من المواطنين الذين يواجهون مشاكل وحشرات في أثاث المنازل بمراجعتها.
ويزيد بالقول: "نحن بدورنا نتابع الأمر، ونتخذ الإجراءات اللازمة للتخلص منها، وحصل أن قدّمنا مساعدة في هذا الإطار عن طريق الإرشاد فيما يتصل بإجراءات النظافة للتخلص من العثّ وغبار المنزل، ونساعدهم على اختيار المبيدات المناسبة المسموح باستخدامها من الأشخاص غير المدربين من عامة الجمهور".
وزارة الزراعة: هذه إجراءاتنا
يدخل الفوسفين إلى الأراضي الفلسطينية بواسطة شركة واحدة وبكميات "قليلة"، لا تُباع إلا للمحال المرخصة، بعد إرسال كشوفات للوزارة، والتوقيع على تعهد بعدم بيعها إلا للمرّخصين، تبعًا لما أفاد به أحمد فطوم مدير عام الإدارة العامة لوقاية النبات والحجر الزراعي.
في العام الماضي، بلغت كمية الفوسفين التي دخلت فلسطين نحو 2500 كيلو، وفي عامي 2020 و2021 بلغت الكمية نحو 3 آلاف كيلو، "وهي كميات قليلة جدًا" يقول فطوم.
وتطرّق إلى إجراءات وزارة الزراعة الرقابية، في حديثه مع مراسل "آفاق البيئة والتنمية"، قائلًا: "تنفذ الوزارة جولات تفتيشية باستمرار في محال بيع المبيدات للتأكد من الالتزام بالتعليمات، علمًا أن في كل مديرية يوجد مفتش واحد، وعدد قليل منها يضم مفتشين اثنين (13 مديرية للوزارة في محافظات الضفة).
لكن المشكلة الأكبر هي الاستخدام الخاطئ للمبيد كما يرى فطوم، مبينًا: "الوزارة تراقب، ونشدد على ذلك، لكن هذا لا يمنع عمليات شرائه واستخدامه على نحوٍ خاطئ، وما حدث في بيت ساحور خطأ متعمد من ناحية الاستخدام، وليس بغرض القتل، وهو بالأساس ممنوعٌ الاتجار به (الفوسفين)".
وأضاف: "مع المراقبة، نحاول تطبيق القانون، لكن هذا لا يمنع وجود أناسٍ مخالفين. كيف لنا أن نعرف أن الشخص المرخص لشرائه سيتاجر بالمبيد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لدينا التهريب المستمر للمبيدات من "إسرائيل" والمستوطنات".
وعن توجه الوزارة بعد حادثة بيت ساحور، قال فطوم إن اللجنة العلمية ستجتمع قريبًا، متوقعًا اتخاذ إجراءات أكثر صرامة باتجاه التشديد على المحلات التي تبيع الفوسفين.
خبير بيئي: عشوائية تحكم سوق المبيدات
بلغ عدد المبيدات المسموحة في الأراضي الفلسطينية 139 مبيدًا، من أصل 385 مبيدًا موجودًا في العالم، وفق وزارة الزراعة.
يُعقّب الخبير البيئي جورج كرزم على الحادثة: "بالبحث في المنهجيات المتبعة فلسطينيًا في تحديد المبيدات المسموحة والممنوعة يُلاحظ وجود نوع من العشوائية وغياب للمنهجيات العلمية الواضحة في ذلك، فقد حُظر استخدام مبيدات معينة في سنوات سابقة، وبعد فترة من قرارات المنع تَبيّن بحسب القوائم الرسمية المعتمدة حكوميًا، أن المبيدات التي كانت محظورة أصبحت مسموحة".
وحسب حديث كرزم فإن الحظر يجب أن يكون على المواد الكيميائية الفعّالة وليس على الأسماء التجارية، لأنه "أحيانًا يُمنع استخدام مبيدات بأسمائها التجارية، ولكنك تجد نفس المادة بأسماء أخرى مسموحة بالتداول، إذن الأصل تحديد المنهج العلمي الذي على أساسه يُتخذ قرار المنع أو السماح بالاستخدام".