وكالات - الاقتصادي - في الوقت الذي أثقلت فيه البشرية بمرض "كوفيد 19" ليحصد أرواحاً وينهك أجساد عشرات الملايين، ويعطل الأعمال والحياة الاجتماعية بشكلها المعهود، خلف الوباء حملًا أثقل على العالم، والذي لن يستطيع اللقاح التحصين ضده.
هذا الحمل الذي ستستمر تداعياته طويلًا هو "تفاقم الدين العالمي" والذي يواصل النمو ككرة ثلج فوق جبل شديد الانحدار، ورغم توجهات مؤسسات التمويل الدولية والبلدان الرئيسية للسيطرة عليه في السنوات الماضية، جاءت الجائحة لتفرض واقعًا مغايرًا للآمال.
في شهر فبراير الماضي، كشفت بيانات معهد التمويل الدولي عن بلوغ الدين العالمي (ديون الحكومات والشركات والأسر) مستوى غير مسبوق عند 281 تريليون دولار بنهاية عام 2020، ما يعادل 355% من الناتج المحلي الإجمالي، وبزيادة قدرها 24 تريليون دولار.
الأمر المحبط (ولكنه منطقي)، هو تأكيد المعهد أن العالم ليس أمامه سوى مواصلة الاقتراض في العام الجديد، بسبب تداعيات الوباء وللاستفادة من انخفاض معدلات الفائدة، متوقعًا أن تزيد ديون الحكومات التي تشهد عجزًا كبيرًا في الموازنة بمقدار 10 تريليونات دولار.
بينما قال المعهد ذلك نجد ألمانيا – أكبر اقتصاد في أوروبا – تعلن هذا الشهر أنها ستواصل الإنفاق الممول بالديون، ليرتفع الاقتراض المرتبط بالوباء إلى 240 مليار يورو خلال العام الجاري بعد 130 مليارا في عام 2020، وفي النهاية سيتجاوز صافي الدين المرتبط بالوباء 450 مليار يورو (535 مليار دولار) من عام 2020 إلى 2022.
على مستوى منطقة اليورو، من المتوقع أن تصل ديون الدول إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى لم تسجله أبدًا حتى خلال أحلك فترات أزمة الديون السيادية، إذ لم تتجاوز 90% آنذاك، علمًا بأن دولاً عدة في المنطقة تجاوزت نسبة 100% الآن بالفعل. وهذه بالكاد نبذة عما يحدث حول العالم وحتى في أكثر الاقتصادات تقدمًا.
ماذا تعني هذه الديون؟
- تخلفت العديد من البلدان بالفعل عن سداد ديونها، كما أن عددًا من البلدان الأخرى، ولا سيما البلدان منخفضة الدخل، معرضة لخطر كبير يتمثل في أزمة ديون، وكلما أصبح الدين أكثر تعقيدًا وأقل شفافية ، أصبح الحل أكثر صعوبة، بحسب البنك الدولي.
- ارتفعت حصة الديون غير الميسرة في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية (بلغت 85% من إجمالي الدين العام للحكومات في الفترة بين عامي 2015 و2019)، مع زيادة تأثير المقرضين من خارج نادي باريس، مما قد يعقد تسوية الديون إذا لزم الأمر.
- يقول البنك الدولي أيضًا إن التحفيز المالي غير المسبوق، شجع على تراكم الديون الخاصة التي قد تتحول في النهاية إلى التزام طارئ للحكومات، ومع ذلك، فإن أسعار الفائدة المنخفضة القياسية قد تخفف بعض المخاطر المحتملة للديون المرتفعة، حتى تبدأ في الارتفاع (الفائدة) مرة أخرى أو تتحول معنويات المستثمرين.
- في الواقع، كان الدين العام مرتفعًا قبل الجائحة بشكل كبير، لكن ذلك لم يحد من قدرة العديد من البلدان (خاصة الاقتصادات المتقدمة) على الاقتراض لمعالجة الأزمة، بيد أن بعض الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية المثقلة بدأت تجد صعوبة أكبر في الاقتراض لدعم الاستجابة للوباء.
- في الفترة التي سبقت بعض الأزمات المالية الماضية، رأينا الدين الخاص يتراكم بمعدل يتجاوز بكثير نمو الناتج المحلي الإجمالي، لذلك يمكن أن تكون هذه الظاهرة علامة تحذير من زيادة الضعف، بحسب صندوق النقد الدولي.
- تظهر التجارب السابقة أنه في أعقاب الازدهار الائتماني، يميل النشاط الاقتصادي إلى المعاناة، وإذا ثبت أن الدين الخاص للأسر أو الشركات أو كليهما غير مستدام، يمكن أن يؤدي إلى حالات إفلاس واسعة النطاق، الأمر الذي قد يتطلب تدخل الحكومات بعمليات إنقاذ للقطاعات الحيوية أو ضمانات حكومية للقروض الخاصة.
اليوم أقسى من الأمس
- عقب الأزمة المالية العالمية في 2008، وتحديدًا خلال أزمة الديون الأوروبية، شهدت أيرلندا احتجاجات بسبب شروط الإنقاذ التي فرضها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وتساءل وقتها المحتجون "من سيدفع؟"، وسرعان ما أجابوا بالقول "ليس أنا فقط ولكن أطفالي وأحفادي".
- لم تكن التكلفة المستقبلية لسداد 85 مليار يورو (112.6 مليار دولار أمريكي) من أموال الإنقاذ هي مصدر القلق فحسب، ولكن الضرر الذي لحق بالاقتصاد الأيرلندي من خلال التقشف القسري وانكماش الديون وإعادة الهيكلة الشديدة للميزانية العمومية.
- كان هذا مجرد صورة مصغرة لموجات الصدمة التي شعرت بها دول كثيرة في جميع أنحاء العالم آنذاك، والآن، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه في ظل الوباء، حيث إن تكلفة الأزمة آخذة في الازدياد، والديون الحكومية تتراكم، وفي مرحلة ما، سيتعين على شخص ما دفع الفاتورة.
- هذه المرة، تتعاطى الحكومات في جميع أنحاء العالم مع الوباء، عبر إنفاق المزيد كما لو أنه لا يوجد غد، وتمزق البنوك المركزية كتب القواعد حول كيفية تمويله، وأُلقي بالسياسات المحافظة في سلة المهملات، وبات المعيار الجديد هو تسييل البنوك المركزية مبالغ ضخمة من الإنفاق بالعجز وإصدار الديون.
- يبلغ الدين الفيدرالي للولايات المتحدة بالفعل ما يقرب من 130% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من ضعفي المستوى المستحق قبل انهيار عام 2008، وفي الوقت نفسه، فإن الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي متضخمة بالفعل من سندات الخزانة وديون قطاع الشركات.
- لا عجب أن سوق السندات أصيب بالفزع وعائدات السندات تسير في مسار تصاعدي، فالأمر لا يتعلق بمخاوف التضخم فحسب، ولكن هناك قلقاً بشأن الوقت الذي سينفد فيه صبر الفيدرالي من كونه أداة لإغراق السوق بالأموال والديون الزائدة.
الحساب قادم
- لا يتعلق الأمر بموعد سداد الدين، ولكن ما إذا كان الأمر سيحدث على الإطلاق، وبالنسبة للعديد من البلدان حول العالم التي تعاني من ضائقة شديدة بشكل متزايد، فإن الأمر يتعلق بعدم القدرة وعدم الرغبة في الدفع.
- بفضل الوباء، كان عام 2020 عامًا قياسيًا في حالات التخلف عن سداد الديون السيادية، حيث تخلفت الأرجنتين وبليز والإكوادور ولبنان وسورينام وزامبيا عن سداد مستحقات سنداتها.
- هذا يضع الاستقرار المالي العالمي في خطر، وهي مسألة وقت فقط قبل أن تنغمس دولة كبرى في أزمة ائتمان أوسع، وفيما تحتاج الحكومات إلى نمو أعلى لتوليد إيرادات ضريبية أكبر، فكلما ضغطت على مدخرات الميزانية، تعرض النمو للخطر.
- ما يعنيه ذلك في النهاية تحمل أعباء ضرائب أعلى وتقشف أكبر، حيث تضطر الحكومات إلى خفض الإنفاق لضبط الموازنة، وبالتأكيد، قد توضع ضغوط نقدية غير متوقعة على شركات التكنولوجيا الكبيرة، ولكن سيتم تمرير ذلك ببساطة في رفع الأسعار وزيادة التضخم.
- هناك نهاية تلوح في الأفق بالنسبة للوباء، لكن العالم لا يزال في حالة هشة للغاية، وتشعر أسواق الديون العالمية بآثار الإفراط في الإنفاق، وعوائد السندات ترتفع، وفي مرحلة ما، لابد أن يكون هناك يوم للحساب، لذا يجب تسوية الديون الوبائية قبل أن يحدث انهيار دون تراخي أو تجاهل للتحذيرات مثلما كان الحال في السنوات الماضية.