السبت، السابع عشر من تشرين أول/ أكتوبر لعام 2015م.. بدا فجرًا عاديًّا بالنسبة لسكان المنطقة المحاذية للتجمع الاستيطاني "كريات أربع" شرقي مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، هي ذاتها تفاصيل كل يوم: صوت الأذان يصل "مترنحًا" من مكبر الصوت الخاص بأقرب مسجد (على بعد أكثر من مائتي متر)، ومتطرفون يهود يصرخون في الخارج "الموت للعرب".
استيقظ العم أيمن اعسيلة (أبو باسل) هذه المرة وقد قرر سلفًا أن الصلاة ستكون في البيت، كيف لا, والاحتلال عاود منذ عدة أيام نصب حاجزٍ عسكري قريب يقطع الطريق نحو المسجد؟, لكن هذا لا يهم، "فالله في كل مكان" هكذا قال، وكبّر.
بيان البنت الكبرى لأبيها لم تفوّت فرصة التسليم "خلفه"، ابتسم لها على سجادة الصلاة كما جرت العادة, ودعا لها بـ"رضا الله"، ثم طلب "قهوة" كل فجر.. تلك التي لا يستطيع أحد تكهّن مذاقها الذي يفضله فيها غير بيان.. استأذنته بدقيقتين قبل ذلك كي توقظ إخوتها السبعة للصلاة، فضحك وأخبرها أن هذا لا يحتاج إذنًا ولو على حساب "كيفه".
بالقرب من سجّادة الصلاة، جلست بيان تراقب والدها يغمس الكعك بقهوته، اقتربت منه وتنحنحت، فأعطاها الأمان بعد أن قال مازحًا: "آااه- الله يستر"..
- لو جبت معدّل عالي بتوجيهي.. بتسمحلي أطلع أدرس هندسة جينات بالأردن؟.
وضع يده على كتفها وضحك، ثم ردّ بنبرة الواثق: "والله لو جبتي معدل يرفع راسي، مستعد أروح معك كمان لحد ما تخلصي دراستك هناك".
صمتت الصبية برهةً، قبل أن تطأطئ رأسها وتطرق في تفكير عميق، كأنها شعرت في تلك اللحظة أنها تحمل والدها "عهدًا" لا يطيقه وهو صاحب ورشة بناءٍ بسيطة، بالكاد يستطيع توفير متطلبات أسرته.
ابتسمت، ونظرت إليه بـ"رضا" ثم قالت: "ولا أقولك.. خلص يا بابا، أنا راح أدرس علوم سياسية هون، يمكن أقدر ألاقي حل لوضع هالبلد المقسوم".. في تلك الساعة التي سبقت السابعة، استمرّت بيان تراجع دروسها استعدادًا لامتحان اللغة الإنجليزية "الأحد"، وحين صار وقت انطلاق الأب إلى عمله ودّعها، فنادته عن الباب: "الله معك يا بابا".
"الزعيمة" لا تركب سيارةً قديمة
السبت, عطلة رسمية في مدرسة (محمد علي محتسب)، لن تضطر بيان ابنة الأعوام السبعة عشر للذهاب بسيارة والدها _وهي من مواليد الثمانينات الأولى_ إلى المدرسة.. كانت في كل مرة يأخذها فيها بواسطتها تتوسل إليه أن يقف عند "رأس الشارع" وحسب، فيسألها ضاحكًا: "هيك يا بابا؟ بتخجلي مني؟".. كانت ترد بلهفة الحبيب: "لا يا بابا، نفسي كل البنات يعرفوا إنك بابا، بس هاي السيارة لأ (..) وعد، وعد، لما تجيب سيارة جديدة، راح أخليك تفوتني المدرسة لجوّة كمان، مش بس توصلني عالباب".. يضحك الأب وتعانقه بيان، يستودعان بعضهما الله.. وتختلف الطريق.
في ذلك اليوم لم يتكرر هذا المشهد بطبيعة الحال، كان حريًا ببيان بمجرد خروج والدها إلى عمله أن تبدأ بإنجاز "حصتها" من أعمال البيت قبل أن تذهب إلى منزل صديقتها للمذاكرة.. ولكن انتظروا، ضربت رأسها بيدها وقالت: "أوو بس، لقد غاب عني أن أخبر أبي بذلك، لا بأس سأخبر أمي بمجرد أن تصحو"..
انطلقت ترتّب وتنفض الغبار وتمسح المرآة الكبيرة المعلقة في صدر البيت، وتكنس الشقة، حتى "السلالم" لم تنسها، استيقظت أمها على صوت "كركعتها"، فقالت لها: "اليوم عطلة.. قسّطي عملك، ليس هناك داعٍ لأن تضغطي نفسك في ساعة واحدة.. ستتعبين هكذا"، فأجابتها: "لا يا أمي, لا أريد أن أخرج وعليَّ واجب تجاهكم.. سأنجز حصتي كاملة، أخشى أن أحمّل إخوتي ما لا يطيقون لو تركت عليهم مهمتي"، وأردفت ضاحكةً: "ما تخافي يا ماما، لسة في كتير عليهم".
حتى أنها في صبيحة ذلك اليوم رتّبت كتبها كلها بعد أن قالت لأمها: "الواحد ما بيدرى شو ممكن يصير.. يمكن الرجعة تكون صعبة، وأنا ما بدي أسمع منك ليلة الامتحان إلا الله يرضى عليكي".
انتهت بيان، وأدخلت رأسها في الثلاجة تبحث عن شيءٍ ما، رأتها أمها و"طنشت"، ثم ذهبت إلى غرفتها تتجهّز هي الأخرى للخروج حيث أهلها عائلة "القواسمي" طلبوا منها الحضور لـ"كبس الزيتون" حيث لا يضاهيها أحد في ذلك.
طرقٌ على باب الغرفة، دخلت بعده بيان تحمل صحنًا فيه "فرط الرمان", "من أين لك بها يا شقية؟", سألت الأم التي كان آخر علمها أن والدها لم يحضر إلى البيت رمانًا منذ أسبوع!, فأجابتها: "من عند بيت سيدي.. هاي إلي وإلك بس" وضحكت.
ردّت أمها: "هادي إلك لحالك يا حبيبتي، كليها هادي حصتك إنتي، وأنا رايحة بعد شوي هناك، بجيب إلك ولخواتك كمان".
كان إصرارًا "فريدًا" ذلك الذي أصرته بيان على أمها كي تأكل معها "رمانتها".. عادت تكرر كلامًا -تقول الأم- إنها كانت تتلفظ به وشمس الصباح تداعب وجهها القمحي: "والله يا ماما هاي إلي وإلك، وراح تاكلي معي رمان لما تشبعي".
لم تكتفِ بيان بمسايرة أمها لها عندما أكلت "لقمتين" إكرامًا لخاطرها، بل واصلت تضع اللقيمات في فمها واحدةً واحدة حتى ابيضّ الصحن، قبّلت رأس أمها وغادرت.
وجعٌ "مجهول المصدر"
في الشقّ الثاني من المشهد، تحديدًا في عمارةٍ تتبع أبراج (ألبان الجنيدي), كان أبو باسل منهمكًا في عمله برفقة الصبية معه.. صاح أحدهم وكان يضع سماعة هاتفه في أذنه متلقفًا أخبار "إذاعة الأقصى": "شهيدٌ في الخليل، يقولون إنه من عائلة القواسمي".. أجابه "معلمه" متسائلاً: "لطفك يا الله، أيعقل أن يكون أحد أقرباء زوجتي؟".
أمسك هاتفه، واتصل بزوجته التي كانت بدأت لتوّها في تحضير حاجيات "كبس الزيتون"، وطلب منها العودة إلى البيت كي تبقى إلى جانب أطفالها، وزاد على ذلك اقتراحًا: "شوفي لو تخلي الأولاد يروحوا يدرسوا عند أصحابهم في المناطق الآمنة بيكون أحسن بلاش يهجموا مستوطنين عالبيت.. مش ناقصنا وجع".
أجابته ضاحكةً: "يا رجل، هيهم قاعدين، ما راح يصير شي إن شاء الله، أنا راح أرجع عالبيت، وأسكّر الأبواب منيح، لا تخاف".
تمتم: "الله يرحمه، مين ما كان يكون"، وعاد يكمل عمله من حيث انتهى.. نصف ساعةٍ مضت على الخبر الأول، نادى بعده العامل ذاته: "وهاي كمان شهيدة من منطقتكم يا عم أبو باسل.. في وادي الغروس".
-ما قالوا اسمها طيب؟
-لا ما حدا جاب اسمها.
في تلك اللحظة يقول العم أبو باسل: "شعرت أنني مكلوم.. وكأن الهمّ ركب أكتافي، وبدأت أفقد تركيزي في العمل, بضع لحظات، رن بعدها هاتفي، وكان باسل: "يابا الله يرضى عليك شو رأيك تروّح بكير اليوم؟ الوضع متوتر وهاي في شهيدة من منطقتنا، تعال بلاش يسكروا الطريق".
عاود الأب الاتصال بزوجته، وسألها: "كل الأولاد عندك صحيح؟" أجابته :"إلا بيان، هي عند صديقتها تذاكر، لا تقلق".
كانت صدمة، كيف؟, بيان لم تخبره أنها ستخرج اليوم؟, وبسرعة البرق انساق فكره نحو السؤال عن هوية الشهيدة.
يزيد: "للمرة الأولى في حياتي، أخرج دون جمع عدّتي، أو تغيير ملابس العمل، هذا على الرغم من أنني لم أعرف هوية الشهيدة حتى (..) كثيرًا ما كانوا يتصلون بي ليخبروني أن طفلاً لي وقع، أو مرض، فأعطي نفسي فرصةً لتغيير ملابسي على الأقل، لكن هذه المرة لا.. لم أستطع، كانت في قلبي غصة، فمن تكون تلك الشهيدة؟, لو لم تكن ابنتي فهي ابنة عمي أو ابنة جارٍ عزيز.. كنت مكلومًا بمعنى القهر حينها".
السيارة القديمة التي كانت بالكاد تدفع نفسها انطلقت بسرعة "برق"، قال له بعض من رآه من معارفه في الطريق لاحقًا: "توقعنا إنها بنتك من سرعتك".. هذا والحقيقة أنه حتى تلك اللحظة ما كان للشهيدة اسمٌ في الأخبار.
"شفتها؟"
دخل البيت مهرولًا حتى أنه تعثّر بالسلّمة الأخيرة، وجدهم كلّهم إلا بيان، كل ما يتذكره حينها زوجة عمّه تقول له: "أكيد مش بيان، وكّل أمرك لله يا رجّال".. في تلك اللحظة كان قد اتّخذ قراره: "ليس أمامي سوى الذهاب إلى نقطة الجيش.. الآن".
مشى يتصبب عرقًا نحو الحاجز، وصوتٌ يناديه من السماء: "أنا هنا، رفعتُ رأسك يا أبي".. وصلَ وتلقّفه الجنود!, تلفّت حوله رغم أنه محاطٌ بالعشرات منهم لكنه لم يجد جثة، وكان الدم يملأ المكان لكنه لم يره.. شمّ رائحة المسك وحسب.
قال للضابط: "وين البنت؟ هاي يمكن بنتي؟"، أجابه بنبرةٍ مستفزّة: "آااه قصدك الجثّة؟!, زمان راحت، ما في حدا هون (..) بس لو بتحب في صورة".
ردّ عليه بنبرة ترتجف ألمًا: "طيب، ورجيني الصورة، بقدر أعرفها من بين ألف بنت"، ابتسم الضابط، وأكمل: "اممم، بس إذ كانت بنتك مش صح تشوفها.. حرام علشانك"، رمقه بنظرة استعجاب.
- يعني إنت قتلتها، وخايف علي أزعل لو شفتها ميتة؟! وااااعجبي..
أخذ الضابط أوامره من القيادة، وطلب منه دخول الكبينة كي يرى الصورة.. كانت خطاه تتعثّر وهو يحاول رفض تصديق احتمالية أن تكون هي.. كان على يقين بأنها لو كانت الشهيدة فهي في مكانٍ آمن الآن.. هناك عند خالقها اللطيف الرحيم، لكن قلب الأب فيه كان ينادي من واقع "حب": "يا رب ما تكون هي".
رأى صورةً أولى، كان وجه الفتاة مغطىً بالدم بشكل كامل، لكنها كانت واضحة: "هي، هي يا أبا باسل، لا تكذب على نفسك".. التفت نحو الضابط وقال له: "هل هناك صورةً أخرى؟ هذه ليست واضحة بما يكفي".. الصورة الثانية بدا وجه "بيان" فيها كالذهب يلمع تحت الشمس.. كانت من غير "مؤثرات الوحشية" تلك التي وجدت في الأولى.. رغم كل شيءٍ رفض أن يصدّق.. خرج من الكبينة برفقة الجنود شارد الذهن، ولم يصحُ من صدمته إلا على وقع صوت "أم باسل" التي لحقت به خلسةً تسأله: "شفتها؟"..
"وإنت كمان كلب"
عاد بزوجته نحو الضابط قائلًا: "قد تعرف أمها ملابسها بشكل أفضل، أنا لم أرها عندما خرجت"، ردّ الضابط "متبلّد الإحساس": "إنت شفتها خليها تيجي لحالها تشوفها".
يسرد العمّ أبو باسل تفاصيل تلك اللحظة بالقول: "مستحيل، هل هو أحمق؟, لن أسمح لها بالدخول وحدها عندهم لو على حساب حياتي.. دار بيني وبين الجنود عراكٌ شديد بالأيدي، حتى أنني رميت الحذاء –أعزكم الله- على رأس ضابطهم الكبير، وكنت بين الجملة والأخرى، أناديهم بـ"الحيوانات".
- إنت يا فلسطيني، إذا ما راح تسكت راح أعتقلك.
- أنا مش خايف من رصاصك علشان تخوّفني بقيدك.
- إذا بدكم تشوفوا الصورة، خلينا نحكي كلام بني آدمين مش كلام حيوانات.
- إذا إنتو "كلاب" كيف بدك ياني أكلمك بلغة إنسان؟.
- لآخر مرة بحذرك.. ممنوع الغلط.
- وإنت كمان كلب.
أمام إصرار أبو باسل على رؤية الصورة مجددًا برفقة زوجته، انصاع الضابط، رأتها أمها.. بدَت كقمر منتصف الشهر تبتسم وكأنها هناك.. تأكل من "رمان الجنة", صرَخت بعالي الصوت: "ألف مبروك يا أبو باسل.. هاي بنتي، شهيدة والحمد لله".
يزيد أبو باسل: "مسحت جبينها، وطوّقتها بذراعي وقلت لها (خلص بيكفي) وخرجنا إلى الناس نكبّر، فجأةً وجدتُ نفسي أطير على أكتاف المكبّرين الذين احتشدوا قرب الحاجز.. الكل ينادي: يا إم الشهيد نيالك.. يا ليت إمي بدالك".
لمّا دخل بيته، سجد لله "شكرًا" على هذه النعمة.. ورفع يديه وخلفه زوجته تذرف "قهرًا" وصار يدعو الله.. يدعوه بكل ما امتلك من "إيمان"، يذكر أنه قال فيما قال: "يا رب إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي".
توافد الناس من كل حدبٍ وصوب، وكلهم كانوا يقولون له: "عظم الله أجركم", لم يرق له ذلك، وهو الذي للتوّ زفّ ابنته إلى "الجنة" كأحلى من أحلى عروس.. قال لهم: "باركوا لي.. باركوا لي فقط.. شهادتها أسمى من كل شهادات الكون".
في اليوم الثالث من أيام العزاء، ذهب أبو باسل ليصلّي الفجر في الجامع القريب، ثم عاد، فتحَ الباب فوجد كل أولاده يردّدون التشهّد.. بعد التسليم التفت جهة ابنته "إسلام" (رقم 2)، وقال لها: "بيان.. وين القهوة؟".. لحظة صمتٍ، وبكى معهم "الحجر".
بيان اعسيلة، أو "الزعيمة بيان" كما تسمي نفسها عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، لمن لا يعرفها، كانت تتجهّز لدراسة التوجيهي بداية العام الدراسي القادم.
في مرةٍ من المرات ولتشجيع أبنائه على تحصيل العلامات التامة، وضع والدها قيمةً من النقود لكل واحدٍ يأتيه بعشرة.. كانت بيان بين اليوم واليومين تأتيه بأربع عشرات!, كان يمازحها قائلًا: "حرام عليكي.. إنتي هيك بتاخدي حصتك وحصة إخواتك"، فأضحى يحتسب لها كل ثلاث ورقاتٍ عن ورقة.. كانت متفوقةً في كل شيء.. الدراسة والحفظ والخطابة وحتى الطبخ: "كانت ست بيت بريمو" يقول أبو باسل.
آخر ظهورٍ لبيان داخل جدران مدرستها كان يوم الأربعاء 14-10-2015م، قبل إجازة رأس السنة الهجرية بيوم، حيث أصرّت على قراءة القرآن عبر الإذاعة المدرسية، والدعاء لأهالي الشهداء والجرحى عبر الميكرفون.. الكلّ صفّق لها ذلك اليوم، والكل "يغبطها" على كل ما تتمتّع اليوم به من نعيم.. هكذا تقول صديقاتها –حسب أبو باسل.
يصلّي أيمن اعسيلة اليوم الفجر، ويلتفت بعد التسليم نحو الخلف فلا يجد خلفه إلا أم باسل تبكي روح "بيان".. يناشد كلّ أحبته إذا كانوا يحبّونه أن يزوروه "فجرًا" وحسب، حيث ذلك الوقت الذي ينادي فيه الكل "بيان" فلا يجيبهم إلا "الصدى"..
واستشهدت بيان اعسيلة (17 عامًا) يوم السبت, السابع عشر من أكتوبر, بثلاث رصاصات أطلقها جنود إسرائيليون في منطقة وادي الغروس بالقرب من التجمع الاستيطاني "كريات أربع" شرقي الخليل جنوب الضفة الغربية، بعد ادعائهم محاولتها طعن جندي هناك، يأتي ذلك في ظل التصعيد الذي تشهده الأراضي الفلسطيني في ظل "انتفاضة القدس" التي بدأت على خلفية اقتحام المسجد الأقصى المبارك.
نقلا عن فلسطين اونلاين