أ. اكرم فارس ابو جامع
بالقدر الذي ساهمت به انتفاضة القدس في شل الحياة المدنية والاقتصادية الإسرائيلية وحجم ما لاقته ليس فقط من تأييد شعبي بل ودولي من مناصري القضية الفلسطينية في العالم الحر والمناهضين للسياسة العنصرية الإسرائيلية اتجاه الشعب الفلسطيني، نجد أن هذه الانتفاضة جاءت لتعبر عن مدى تمرد الجمهور الفلسطيني على الواقع المرير الذي فرضه الاحتلال من اعتداءات مستمرة ومتتالية على المقدسات وحرمان الفلسطيني من أبسط حقوقه على الأرض بل أن إسرائيل حولت المدن والقرى الفلسطينية إلى سجون موزعة ومنفصلة عن بعضها البعض فأضحت الظروف الاقتصادية أسيرة الإجراءات الإسرائيلية من تقييد للتجارة الخارجية الفلسطينية وعرقلة حركة التجار والمنتجين بالإضافة لتدميرها القاعدة الانتاجية، فالضفة الغربية مقطعة أوصارها ب 630 حاجزا وقطاع غزة يعاني حصارا مشددا منذ ما يقارب العشر سنوات منعزلا عن العالم الخارجي ومنهك من ثلاث عدوان خلال خمس سنوات كانت كفيلة بتدمير بنيته الاقتصادية فإجمالي عدد المنشآت المتضررة من عدوان صيف 2014 هي4705 منشأة: 828 منشأة في الفرع الصناعي، و2829 منشأة في الفرع التجاري، 1048 في الفرع الخدمي. ان هذه الظروف التي فرضها الاحتلال جعلت من المقاطعة الاقتصادية ضرورة ملحة كشكل من أشكال المقاومة الشرعية، فحجم الوعي الجماهيري المحلي والدولي بأهمية نصرة القضية الفلسطينية وعدالة حقوق الشعب الفلسطيني جعلت من سلاح المقاطعة الاقتصادية سبيلا لانتزاع حقوق الشعوب المضطهدة والتاريخ دليل شاهد على نجاح هذا السلاح في رد كيد الاحتلال.
لقد نشطت في السنوات الأخيرة الحملات واللقاءات والتظاهرات الداعية الى مقاطعة الاحتلال اقتصاديا وسياسيا وثقافيا فكانت المبادرة لمؤسسات المجتمع المدني والحملات الشبابية والتي تمخض عنها حركات كاللجنة الوطنية للحملة النسائية للمقاطعة، وحملة بادر لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والتي استخدمت في دعوتها ودعايتها للمقاطعة أسلوبها الخاص، حيث استوحت تجربة "المهاتما غاندي" في مقاطعة الاستعمار البريطاني، والحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها "BDS"، واتحاد جمعيات حماية المستهلك والتي كبدت دولة الاحتلال خسائر مادية كبيرة، والمتمعن بعين التحليل يجد أن غالبية الشباب المنتفض هم من ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي وهي ذات المواقع التي ساهمت بقوة في تنشيط المقاطعة الاقتصادية والترويج للمبادرات والحملات الجماهيرية والتي كان لها الدور الكبير في دفع الجمهور الفلسطيني والدولي إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. فالمقاطعة هي "تلك الوسائل والأساليب الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية التي يمكن انتهاجها بعدم التعاطي مع مصالح بلد ما لغرض انتزاع مكاسب محددة".
إن هذه الثقافة التي بدأت في الرواج والانتشار جعلت إسرائيل تستشعر بأن المقاطعة هي الخطر الداهم والكفيل بأن يكون بمثابة "انتفاضة ثالثة"، وقد ورد في مقال لتوماس فريدمان في صحيفة "نيويوروك تايمز" بتاريخ 4/2/2014 ذكر فيه أنه "يتوقع انتفاضة ثالثة، ليست بالحجارة أو التفجيرات مثل السابقتين.. لكنها أشد ما تخشى إسرائيل حدوثه، انتفاضة تقوم على أساس المقاومة اللاعنفية والمقاطعة الاقتصادية. ولن يقوم بها الفلسطينيون في رام الله، بل الاتحاد الأوروبي، وغيره من معارضي الاحتلال الإسرائيلي على مستوى العالم" .
لقد تعددت محاولات إسرائيل للإحاطة بنجاحات المقاطعة والتي استهدفت بالأساس التجارة الفلسطينية من خلال السياسات المتجددة للتكيف والإحاطة بمحاولات المقاطعة الاقتصادية فمع مطلع العام 2014 عكفت إسرائيل على تخصيص مبلغ 30 مليون دولار أمريكي لمواجهة الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات BDS، وفي ذات السياق شكلت إسرائيل لجنة برئاسة وزير القضاء الاسرائيلي السابقة "تسيبي ليفني" لمواجهة دعاوى قضائية ضد جنود ومسؤولين اسرائيليين في الخارج، تهدف لإيجاد مظلة حماية لاسرائيل، وأكدت ليفني أنه "على ضوء الوضع الحالي وزيادة الاصوات المنادية بفرض المقاطعة على اسرائيل ونزع الشرعية عنها في السنوات الاخيرة، فهناك ضرورة للعمل وللاستعداد القضائي الفوري والحازم". يضاف لذلك الحركة الدبلوماسية النشطة والتي بادر بها وزير الخارجية السابق افيغدور ليبرمان باتجاه الصين وبعض الدول الأوربية، محليا عكفت إسرائيل خلال العامين الأخيرين على فسح المجال أمام التجار الفلسطينيين بمنحهم التسهيلات وتصاريح التجارة، والسماح بدخول البضائع الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية ضمن حلقة تكميلية ما بعد تقويض المنشآت الإنتاجية المنافسة وخاصة في قطاع غزة. الحصار المفروض على الأراضي الفلسطينية عامة وقطاع غزة خاصة والذي يحول دون إيجاد البدائل السلعية المحلية والدولية للمنتجات الإسرائيلية. بالإضافة إلى القيود المفروضة على التجارة الفلسطينية بسبب اتفاقية باريس والتي تلزم التاجر الفلسطيني بإدخال بضاعته من خلال مخلص إسرائيلي بما ينسجم مع المواصفات الإسرائيلية للمنتجات المستوردة.
وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني نجد أن ما تم تصديره في عام 2013 إلى العالم الخارجي هو 12.7% فقط من إجمالي الصادرات الفلسطينية أما باقي الصادرات والتي تبلغ نسبتها 87.3% فكانت إلى إسرائيل وذلك بسبب القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال على تصدير المنتجات الفلسطينية وخاصة من قطاع غزة حيث بلغت قيمة الصادرات السلعية من قطاع غزة حوالي 1.5 مليون دولار أمريكي فقط من ذات العام وهي لا تذكر إذا ما قورنت بالواردات والتي في جلها من إسرائيل، ويمكن تقسيم المنتجات المستوردة من إسرائيل إلى قسمين الأول لا يوجد له بديل محلي ويمثل ما قيمته 47% من الواردات من إسرائيل أي ما قيمته 1096 مليون دولار والثاني يمكن إيجاد بديل محلي له وتبلغ قيمته حوالي 1970 مليون دولار وهو الذي يجب التركيز عليه واستهدافه بحملات المقاطعة الاقتصادية وتهيئة القاعدة الانتاجية الفلسطينية. من زاوية أخرى كان لاعتماد السلطة الوطنية على الواردات كمصدر رئيسي للإيرادات الضريبية تشجيعا ضمنيا للاستيراد من الخارج وخاصة من إسرائيل على حساب دعم المنتج المحلي ما ساهم في استمرار العجز التجاري الذي في جزئه الأكبر تهيمن عليه إسرائيل وبالتالي تقويض القدرة التنافسية الفلسطينية واللافت أن شح المعلومات الخاصة بالمنتج الفلسطيني، وما هو المطلوب تسويقه من سلع ومنتجات في دول العالم وما طبيعة السلع المطلوبة والإجراءات المتبعة قد يعتبر عاملا مؤثرا آخر على مسار وقوة التبادل التجاري وبخاصة على الصادرات الفلسطينية. ،
وواقع الحال يقول أن المقاطعة الاقتصادية تنشط بقوة حال تفاقم وتيرة الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني ما قد يعكس أن البعد العاطفي دافع مهم للحراك الجماهيري، فقد كان لصدى عدوان صيف 2014 والذي خلف وراءه الآلاف من الشهداء والجرحى وهدم عشرات آلاف البيوت والمنشآت الصناعية أن تكلفت دولة الاحتلال خلال هذا ذات العام حوالي 20 مليار دولار وتسريح أكثر من 10000 عامل من المستوطنات واغلاق عديد المنشآت الصناعية وخاصة الموجودة في المستوطنات حسب ما أشارت اليه التقارير، ليطلق النشطاء على عام 2014 عام المقاطعة الاقتصادية. وتجدر الإشارة الى أن الاحتلال قد تكلف خمس أضعاف هذا الرقم للفترة ما بين 1945 حتى 2000 حسب بيانات المكتب الرئيسي للمقاطعة العربية بدمشق أي أن ما تم انجازه في تلك الفترة المقدرة ب 55 عاما من الممكن انجازه في 5 سنوات. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي والذي يقدر ب 304 مليار دولار امريكي عن العام 2014 حسب أرقام البنك الدولي. يمكن تقدير الأثر المباشر للمقاطعة الاقتصادية للمنتجات الإسرائيلية على النشاط الاقتصادي الإسرائيلي وما تكبده الاحتلال من خسائر اقتصادية هو ما نسبته 6.5 % من ذات العام.
وفي المحصلة يمكن أن نجمل ما هو الدور المطلوب والكفيل بأن تكون المقاطعة الاقتصادية جنبا إلى جنب مع انتفاضة القدس: أولا يجب على الحكومة الفلسطينية أن تعمل على توفير التسهيلات والامتيازات الإنتاجية والتجارية للمنتج الوطني مع تحسين شروط الاستثمار في مجالات الصناعات النباتية والغذائية والكيمائية لتكون بديلا عن المنتج الإسرائيلي مع أهمية فرض الرقابة على مقاييس الجودة للمنتجات المحلية وكذلك مراجعة أنماط الإنتاج الراهنة في الضفة الغربية وقطاع غزة بما يتوازى ودراسة هيكل التجارة الخارجية مع إسرائيل والعالم، والعمل على تعديل بنود اتفاقية باريس لتنسجم مع متطلبات التنمية التحررية الفلسطينية وفتح المجال أمام الاستغلال الأمثل للاتفاقات التجارية الإقليمية والدولية وهنا يجب العمل على ان يكون العمل على مسارين: الأول تنظيم وتهيئة القاعدة الانتاجية والتجارية والآخر جهد دبلوماسي هدفه التوافق مع الدول التي تربطنا بها اتفاقات تجارية وخاصة دول الاتحاد الأوروبي بأهمية تمديد فترة ونوع الامتيازات الممنوحة وتوسيع قائمة السلع الزراعية المسموح دخولها الأسواق الأوروبية مع ضرورة استعمال السعي لاستثارة النفوذ الدولي وبخاصة الأوروبي للضغط على إسرائيل للحد من الإجراءات الإدارية والأمنية بحق التجارة الخارجية الفلسطينية.
أما بالنسبة للقطاع الخاص أن يعمل على تحسين جودة وتنوع المنتجات الفلسطينية لزيادة تنافسيتها في الأسواق المحلية والدولية وتعزيز أداء القطاعات الإنتاجية. فصائليا يجب أن ترتقي الجهود الوطنية والفصائلية لمستوى اعتماد المقاطعة الاقتصادية ضمن برامجها المقاومة على صياغة وثيقة وطنية لتقر كتشريع لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والعمل على دعم المنتج الوطني وتعزيز ثقافة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل داخليا ودوليا، بشتى الوسائل سواء الإعلامية أو الدبلوماسية أو الثقافية. وأخيرا المطلوب على المستوى الوطني العمل على إيجاد جسم تنظيمي لتفعيل الوسائل النوعية والحفاظ على المنجزات الوطنية والدولية في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية كإنشاء هيئة رسمية للمقاطعة الاقتصادية. واعتماد بنود مالية لدعم حملات المقاطعة ماديا وعينيا على أن يساهم المنتجين الفلسطينيين بالجزء الأكبر باعتبارهم المستفيد الأول ماديا من عملية المقاطعة.
بقلم الباحث في الشؤون الاقتصادية/ أ. اكرم فارس ابو جامع