يخرجون تحت جنح الظلام تاركين فراشهم غير الوثير، يتلمسون طريقهم، يجوبون الشوارع والأزقة، باحثين عن لقمة العيش المريرة، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش وأغلقت أمامهم أبواب فرص العمل، بعد أن أطبق الحصار على هذه البقعة الصغيرة من فلسطين "قطاع غزة".
عمّال الخردة أو جامعو قطع البلاستيك والحديد والنحاس، ظاهرة أصبحت مرئية بوضوح في قطاع غزة، يعمل بها كل من لا يجد ما يسدّ رمقه، ويكفي حاجة أسرته، يعملون في ظروف لاانسانية صعبة، من جميع الجوانب، مصرّين على استمرار إدارة عجلة الحياة رغم ضنك العيش وانسداد الأفق.
في إحدى تجمعات " الخردة" في منطقة الزرقاء شرق مدينة غزة والتي تكدست فيها أطنان من مخلفات البلاستيك والحديد والنحاس وغيره، التقت مجلة "آفاق البيئة والتنمية" بعدد منهم:
هذا الشاب اكتست السمرة ملامح وجهه النحيف الذي انساب منه العرق، بعد رحلة عمل في التنقيب والنبش في النفايات ليس بحثاً عن الذهب الأسود، بل عن قطع من البلاستيك التي أصبحت جزءا من حياتهم ومصدرا لمعيشتهم.
يقول عطية وهو يشير بيديه اللتين علاهما السواد نتيجة العمل دون أدنى وسائل تقي من التلوث:" أعمل بهذه المهنة منذ سبع سنوات بعقد غير دائم، وأعيل أسرتي وأساعد أسرة أخي المكونة من سبعة أفراد وأب مريض، حيث اصطحب معي اثنين من أبناء أخي اللذين يعملان في فترة الإجازة الصيفية، كي يوفرا ما يسد حاجات أسرتيهما ويحميهما من التسول والجوع، عبر تحصيل ما قيمته 20 شيكل يومياً.
يضيف وهو يشير لطفلين لم يتجاوزا العاشرة من عمرهما، اصحبهما إلى الشوارع والبيوت فقط وأمنعهم من النبش في المكبات الخاصة بالبلدية خشيةً عليهم من خطر التعرض لأية آلات حادة قد تصادفهم أثناء النبش؛ نتيجة خبرتي في هذا المجال.
بدون اهتمام
ويشتكي عطية من قلة اهتمام المسؤولين بهم في البلدية حيث لا يمتلكون قفازات ولا كمامات ولا تطعيم ضد الأمراض التي قد يصابون بها نتيجة هذه المهنة، وتبقى حياتهم معرضة للخطر.
عرفات العاصي لم تختلف قصته عن نظيره عطية سوى في بعض التفاصيل، فهو في منتصف العشرينات من عمره متزوج ويعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد، يمتهن هذه المهنة منذ عشر سنوات، ليحصل على 20-25 شيكل يومياً، نظير عمل يمتد لعشر ساعات يومية.
يقول العاصي:" الحمد لله شيء أحسن من لا شيء في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، بكفي أنني أُحَصّل مصروف البيت، ولا أمد يدي لأحد، ولكن أتمنى أن أجد عملاً بديلاً ولو بأقل أجرة من ذلك، لأن هذه المهنة متعبة وشاقة وخطرة جداً على صحتنا ولكن ما باليد حيلة".
أوقف عربته التي يجرها حصان، ثم بدأ بإنزال ما جادت به رحلة البحث التي امتدت منذ الفجر وحتى الساعة الرابعة عصراً، بدت على ملامحه آثار الإنهاك والتعب، والتأفف من هذه المهنة التي أضطر لامتهانها مؤخرا بعد العدوان الأخير على القطاع، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل بعد أن كان يعمل في الطوبار ومع مقاولي البناء.
فتح المعابر
هذا حال أحمد الهالول (27) عاماَ يقول "أعيل أسرة مكونة من ثمانية أفراد وأعمل في اليوم بحوالي (20) شيكل (لا يسمنوا ولا يغنوا من جوع)، أدفع منهم جزءاً لعلف الدابة والباقي اقتسمه مع أخي الذي يعمل معي، أتمنى أن تفتح المعابر ويدخل الاسمنت كي أعود لمهنتي السابقة".
وتابع أعمل واجمع المخلفات من النفايات وليست البيوت؛ وهذا يجعل العمل شاقاً وأكثر خطورة خشية التعرض للتلوث أو خطر الآلات الحادة.
طلعت العاصي الذي يمتلك مجمع الخردة بالشراكة مع شقيقه، أشار إلى أن العمل في قطاع الخردة كان في السابق ذو جدوى اقتصادية ومربح للغاية، حينما كانت المعابر مفتوحة، والأنفاق تعمل، ولكن اليوم أصبحت هذه المهنة لا تجدي نفعاً وأقصى ما يجمعه يومياً جراء شراء الخردة من العمال 30 شيكلاً فقط.
ويضيف: "اشتري الخردة البلاستيك الكيلو بشيكل وأحصل على ربح يقدر ب 2 اغورة على كل كيلو، أما الحديد وخلافه فهي تجارة لم تعد مرغوبة، بعد إغلاق المعابر وإطباق الحصار" مضيفاً أنه تعامل مع حوالي (30) عاملاً من أعمار مختلفة ما بين مسنين وشباب وقليل من الأطفال.
يتمنى العاصي أن يجد مهنة أخرى على الرغم من عمره الطويل الذي قضاه فيها؛ ولكن نظرا لصعوبة الوضع الحالي، يخشي أن يؤول به الحال ولم يستطع أن يدفع أجرة المكان البالغة (1200) دينار سنوياً، عدا على أن ثمن هذه الخردة انخفض أضعافاً بعد توقف تصديرها لمصر وداخل الخط الأخضر.
مشروع تجريبي
مدير عام الصحة والبيئة في بلدية غزة المهندس عبد الرحيم أبو القمبز قال أن البلدية كجهة مختصة بموضوع النفايات ومن منطلق اهتمامها بهذا الشأن، نفذت في العام الماضي وضمن مشروع تجريبي لفرز النفايات والاستفادة منها، عملية تحويل جزء بسيط يقدّر بـ 5% من المادة العضوية التي تم تحويلها إلى كمبوست (سماد عضوي) لاستخدامه في عملية تسميد الأرض.
وأضاف: أما البلاستيك فقد تم بيعه في السوق المحلي لإعادة تدويره، والحديد جرى كبسه تمهيدا لتصديره في حال تم السماح بذلك للجانب المصري أو داخل" إسرائيل".
البطالة
وبيّنَ أن هناك زيادة في ظاهرة عمل النباشين من جميع الأعمار في هذه المهنة في ظل تفاقم أزمة البطالة وانحسار فرص العمل، موضحاً أن حصر العاملين في هذه المهنة صعب للغاية، لافتاً أن المشروع السالف الذكر جرى من خلاله استهداف عددٍ منهم لتوعيتهم وتثقيفهم حول سبل الوقاية أثناء العمل، وتم توزيع عدد من عربات الكارلو عليهم، ولكن كان المشروع لفترة محددة فقط وحسب المشاريع الممولة.
وكشف أن عدد النباشين يزيد في الإجازة الصيفية ثلاثة أضعاف، نتيجة عمل الكثير من التلاميذ في هذه المهنة من ذوي الدخل المحدود لتحسين ظروف أسرهم، موضحاً أن البلدية لا تمتلك سلطة لتنظيم عمل النباشين.
يُذكر أن قطاع غزة ينتج حوالي (1600) طن من النفايات يوميا منها (700) طن في مدينة غزة، وأن(55%) من النفايات مواد عضوية، (16% ) كرتون وورق، ( 14% ) بلاستيك، (2% ) حديد و(1% )زجاج، والباقي عبارة عن رمال وقماش وأخشاب وخلافه.
أستاذ الصحة العامة في جامعة القدس "أبو ديس" يحيى عابد يقول في هذا الصدد: "هذه الشريحة خاصة الأطفال منهم انغمست أحلام طفولتهم بظروف اجتماعية قاسية ساقتهم للعمل في وقت بناء شخصيتهم، حيث واجهوا متاعب الحياة في مراحل مبكرة من العمر في ظل غياب أدنى حماية لهم، سواء من قوانين العمل الدولية أو المحلية ما عرّضهم لمخاطر صحية جمّة".
النباشون يجمعون النفايات في غزة
أبرز المخاطر
وأشار أن أبرز المخاطر التي يتعرض لها النباشون الأطفال هو التعرض لمخاطر بيولوجية ناتجة عن وجود ملايين البكتيريا والفيروسات في مكبات النفايات منها النزلات المعوية، التيفوئيد، الباراتيفوئيد، الزحار (الدوسنتاريا) الاميبيا والباسيلي. عدا عن احتمالية الإصابة بميكروبات السلمونيلا والشقلا إضافة للالتهاب الكبدي الوبائي . فضلاً عن الالتهابات الجلدية بأنواعها والتهاب ملتحمة العين.
وتابع عابد كما يتعرض الأطفال لإصابات عمل مباشرة وغير مباشرة مثل الإصابة بجروح ناتجة عن لمس أجسام معدنية وقطع زجاج، ناهيك عن احتمال التعرض لتشوه العمود الفقري إثر حمل أثقال تفوق مقدرة أجسامهم النحيفة.
أما العوامل الفيزيائية يوضح الدكتور أنها تلعب دورا آخر لا يقل خطورة عما سبق؛ فهم يتعرضون لضربات الشمس في الصيف وقرصات البرد في الشتاء. ودعا الدكتور عابد ومن منطلق المسؤولية الأخلاقية والإنسانية حيال هذه الشريحة المجتمعية، أن تبادر وزارة الشؤون الاجتماعية والمؤسسات ذات العلاقة بوضع حلول جذرية لمعاناتهم.
أضرار اجتماعية
وترى الاستشارية في الخدمة الاجتماعية آيات أبو جياب من جمعية "عايشة "أن هناك أضراراً اجتماعية كبيرة وصحية ونفسية، لا تؤثر في العاملين في هذه المهنة فحسب بل تمتد آثارها للآخرين والمجتمع، موضحة أن من يعمل بهذا العمل فقد دعته الحاجة المادية في ظل تفاقم أزمة البطالة التي تعدت 60% في القطاع.
وتضيف أن هذه المهنة غير صحية ولا تحظى بقبول ولا مكانة اجتماعية، وهي منهكة صحياً ونفسياً، عدا عن أنها ستؤدي مستقبلاً إلى تدني تقدير الذات لدى الشخص والشعور بالدونية أكثر من عاملي النظافة؛ نتيجة عمله على مرأى ومسمع من الناس، ما يُولد شعور بالخجل يدفعه إلى التواري عن عيون الآخرين.
وترى أبو جياب من ناحية أخرى أن امتهان هذا العمل سيعزز الدافع المادي لدى البعض من ذوي النفوس الضعيفة، فيلجأوا إلى التدخين أو تعاطي المنشطات، ومنهم من يتعرض للاستغلال المادي من قبل تجار الخردة؛ مستغلين حاجتهم المادية.
وتُحيل تاريخ العمل بهذه المهنة إلى " إسرائيل" التي كرست هذه المهنة من خلال العمّال الفلسطينيين الذين كانوا يصطحبون معهم مخلفات البيوت والأثاث وغيره، كما ساهم الحصار وتبعات الحروب التي تعرض لها القطاع خلال الثماني سنوات الماضية، وما نجم عنها من مخلفات متنوعة في تنامي هذه الظاهرة.
وتحذر أبو جياب من المخاطر الأخرى جراء عمل تلاميذ المدارس في النبش خلال الإجازة الصيفية وما ينضوي عليه من تدني تحصيلهم الدراسي، ومن ثم يؤدي إلى التسرب بحثاً عن المال وإشباع حاجاته الشخصية.
وتؤكد أبو جياب على ضرورة محاربة هذه الظاهرة من خلال مجموعة من الآليات وفي مقدمتها إجراء دراسات بحثية حول هذه الظاهرة والوقوف على أسبابها ومعالجتها من قبل المسؤولين والمؤسسات.
الكاتب: ماجدة البلبيسي / غزة
خاص بآفاق البيئة والتنمية