مصطلح "نهر" يمجد المنطقة، فالمعلم الجغرافي أشبه بأن يكون مجرى هزيلاً.
من الجانب الفلسطيني، فإن السيطرة المطلقة للحدود تابعة لإسرائيل، ولا يمكن لحاملي جواز السلطة الفلسطينية التنقل مباشرة إلى جسر اللنبي، بل يتجمهرون عند استراحة أريحا، حيث يفصل بين الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية وإسرائيل حدًا وهميًا، ثم تحمل الحافلات الفلسطينيين وحقائبهم إلى "اللنبي"، حيث يتم التدقيق بأوراقهم الثبوتية للحصول على إذن السفر، فهناك من يعبر، وهناك من يرجع، وكل بإشارة من إسرائيل!
بعد الحصول على إذن العبور، وبعد التأكد من أن كل الإجراءات جاهزة، يجمع الفلسطينيون حقائبهم ثم ينطلقون في حافلة أخرى، نحو المركز الحدودي الأردني، حيث تفحص وثائقهم وأمتعتهم مرة أخرى.
هناك أيضًا من يحمل الهوية الزرقاء (المقدسية)، والذين يمكنهم السفر إلى الخارج عبر مطار تل أبيب، أما بخصوص الدول العربية (ما عدا الأردن ومصر)، فلا يسمح لهؤلاء دخولها عبر تل أبيب، بل عبر الأردن، فهم يسافرون مباشرة من القدس إلى الجسر، (في سيارة أجرى أو حافلة من حملة اللوحات الصفراء).
إذًا هناك نوعان من الفلسطينيين هنا: "فلسطينيو الضفة"، و"فلسطينيو القدس"، وأما النوع الثالث فهم الفلسطينيون القاطنون في غزة، الذين لا يسمح لهم بالسفر عبر الأردن، فالمخرج الوحيد لهم، (هو مغلق بشكل شبه دائم)، وهو معبر رفح الذي يربط غزة بجمهورية مصر العربية.
لكن ليست هذه الحكاية كلها، فهناك نوع رابع، وهم فلسطينيو الداخل، وهم مواطنون إسرائيليون، يمكنهم السفر إلى الأردن ومصر، لكن يمنعون من دخول الدول العربية الأخرى، وفي حالة هؤلاء، قد يحصل أن يحمل أعضاء العائلة الواحدة أوراق سفر مختلفة، ما يجبرهم على السفر منفصلين وبطرق مختلفة.
من المذهل أن شعب واحد، يعيش في وطن واحد بظروف مغايرة إلى هذا الحد، حتى عندما يتعلق الأمر بالسفر.
خلال رحلتي الأخيرة إلى فلسطين خضت هذه التجربة بنفسي، فدخلت بداية عبر مطار تل أبيب، حيث فحصت وأدخلت بسرعة، ففي مرات سابقة كنت انتظر ساعتين أو ثلاثة إضافة إلى أنني كنت أضطر لتحمل التحقيقات المكثفة... في هذه المرة كنت سألتحق بزوجتي وابني اللذين سافرا قبلي لقضاء إجازة مع أنسبائي، واضطررت إلى قضاء بضعة أيام في المملكة الأردنية، لذا اتجهت وعائلتي في سيارة أجرة نحو جسر اللنبي، حيث تفرقنا لأن زوجتي من حملة هوية القدس، في حين نحمل ابني وأنا جواز سفر بريطاني.
أدخلنا بسرعة معقولة نحو الجانب الأردني، حيث افترقنا، مرة أخرى وأجبرنا على حمل الحقائب والأمتعة بين نقاط التفتيش والتمحيص... وهكذا استغرقت عملية العبور قرابة الثلاث ساعات.
أما رحلة العودة، فكانت مُذلة ومزعجة، واستغرقت حوالي ست ساعات من بدايتها حتى نهايتها، فالمرافق في كلا الجانبين غير معدة للتعامل مع الأعداد الكبيرة من العابرين في الاتجاهين، وبخاصة خلال العطلة الصيفية، فرغم أن الجسر يفتح لساعات أطول إلا أنه يشهد اكتظاظًا كبيرًا.
أول انطباع تأخذه هو أن الإسرائيليون يعاملون الفلسطينيين على أنهم أقل منهم شأنًا، فيصرخون عليهم بلغتهم العربية الركيكة ويدفعونهم ليرجعوهم إلى الطوابير. فإن كان هناك نقص في وثائق أحد العابرين يرجعونه كأنه حيوان... كان الأمر مزعجًا!
وكنت أسمع الناس من حولي يتذمرون من هذه التجربة التي لا تمثل إلا مذلة للفلسطينيين، وكيف أن "اليهود" يهينون الفلسطينيين وهم في طريق عودتهم إلى وطنهم... سمعت امرأة تقول: "متى سينتهي هذا؟!"، وأخرى تتذمر قائلة: "اليهود يستمتعون بهذا".
أما تجربتي فكانت محتملة، فرغم أنني افترقت وابني عن زوجتي عند الحدود الأردنية، بسبب حملها هوية قدسية، إلا أننا لاقينا تعاملاً جيدًا من الأردنيين الذين استقبلونا كسائحين وزوار، لكن ذلك لم يخفف من الإزعاج الذي يسببه اكتظاظ المرافق.
عند عودتنا، أخذتنا الحافلات من الجانب الأردني إلى الإسرائيلي، وكانت الحركة عبارة عن فوضى تامة! وكان علينا الانتظار في محطتين في الجانب الإسرائيلي قبل أن نتمكن من المغادرة.
لكن الفوضى لم تنته هناك، فإنزالك الأمتعة من الحافلة وإدخالها إلى الجانب الآخر من الجسر هو مأساة أخرى.
أذكر أن التفتيش الشخصي استغرق ساعة كاملة، نظرًا للأعداد الهائلة من العابرين، وكما في المرة السابقة، كان الإسرائيليون يصرخون بلغة عربية غير واضحة: "روخي" (اذهب من هنا) على كل من يعبر المنطقة.
وبعد ساعة وصلنا إلى محطة تدقيق الجوازات، حيث أدخلت زوجتي، لكن بقيت جوازا السفر الخاص بي وبابني آدم وأرجعوني إلى المكتب الخلفي، حيث استدعيت هناك ليسألوني عن علاقتي بزوجتي!
هذا التأخير والتحقيق كانا بلا فائدة، بل بديا أنهما صمما خصيصًا ليعلم الفلسطينيون من الجنسيات الأخرى أن الاحتلال هو القائد والمدير.
"ما اسم أبيك؟ أين ولد والداك؟" وبالطبع، هما مولودان في القدس، ما قادهم إلى طرح السؤال التالي: "هل هم من حملة الهوية المقدسية؟".
أجبتهم بأن والداي لم يكونا من حملة الهوية المقدسية، لكنهم أعادوا السؤال نفسه مرتين أو ثلاثة. أعتقد أن سبب إلحاحهم على السؤال هو لأنهم كانوا سيأخذون مني الهوية المقدسية لو كنت أحملها، في محاولة للتخفيف من عدد الحاصلين على حق الإقامة في القدس... ثم سألوا مرة أخرى: "ذكرنا، ما هو اسم أبيك؟"، وبعد 20 دقيقة من ذلك، أخذنا تأشيرتنا وتمكنا من المغادرة باتجاه منزلنا.
رحلة بالسيارة كانت تستغرق، عندما كانت الحدود مفتوحة قبل عام 1967، ساعة ونصف من الباب إلى الباب، باتت تستغرق الآن أكثر من نصف يوم مع الكثير من الذل والهوان.
لذا يمثل عبور الجسر أكبر ذل بالنسبة للفلسطينيين، الذين يتذكرون في كل مرة يمرون منه أن إسرائيل تسيطر على معظم مناحي حياتهم.
يذكر أن غالبية الفلسطينيين لا يتحدثون إلى الإسرائيليين إلا عند نقاط التفتيش، للحصول على أذونات مرور.
على إسرائيل أن تدرك أن الاحتلال والذل ضد الفلسطينيين، يزيد الطين بلة، ويضيف المزيد إلى الكراهية بين الشعبين، وهذا سيحول دون تقبل الواحد للآخر... فالفصل والتمييز يولد الخوف وانعدام الثقة، وحان الوقت لينتهي ذلك لأجل مصلحة كل الأطراف".
يمكنكم الاطلاع على القصة كما وردت بالإنجليزية على الموقع الإلكتروني:
http://kamelhawwash.com/