أودُّ أن أكتب عن آثار الحياة لفترةٍ طويلة على التخطيط للتقاعُد والدور الذي تلعبه الانحيازات السلوكية في الصعوبة التي يواجهها الناس في التخطيط لسنوات تقاعدهم. اهتماماتي البحثية هي كيفية تفكير الناس في المستقبل، خاصةً عندما يُخطِّطون له، واختلاف التفكير في المستقبل عن التفكير في الحاضر. يدعم بحثي ما يُزعَم أنَّ الفيزيائي نيلز بور قد قاله؛ «التوقُّعات صعبة، خاصةً تلك المُتعلِّقة بالمستقبل». التحدِّي الأول والأكبر هو الانتباه للمستقبل لفترةٍ طويلةٍ كافية لوضع خطة.
لماذا يكون التفكير في المستقبل (البعيد) صعبًا جدًا خاصةً عندما يتعلَّق الأمر بالمال؟
ربما تعتقد ببساطة أنَّ السبب هو جشع الناس وقصر نظرهم. ولكننا نعرف من الأبحاث السلوكية أنَّ الناس إذا خُيِّروا بين تناول قطعة حلوى وتناول وجبةٍ خفيفةٍ صحيةٍ، سيتناولون الحلوى الآن ويُخطِّطون لتناول الوجبة الخفيفة الصحية الأسبوع التالي. ولكن عندما يأتي الأسبوع التالي يفعلون الأمر نفسه، ينغمسون في ذواتهم الحالية ويَعِدون بخيارات صالحة لذواتهم المستقبلية.
نرى الأمر ذاته إلى حدٍ ما في السلوكيات المالية، فالناس يستخدمون بطاقات الائتمان بالأجَل من أجل شراء تليفزيون جديد أو قضاء عطلة شتوية. وبينما أؤمن أنَّ مشاكل السيطرة على النفس وما يدعوه الاقتصاديون السلوكيون «التفضيلات المنحازة للحاضر» حقيقية وهامة، إلَّا أنَّني أعتقد أنَّها على الأرجح سبب ضئيل نسبيًّا في الصعوبة التي يواجهها معظمنا في التفكير في التخطيط المالي طويل المدى. أعتقد أنَّه من الهام أن يتوقَّف الناس عن لوم أنفسهم على ضعف إرادتهم وانعدام السيطرة على النفس ويُدركوا أنَّ التخطيط طويل المدى هو في الحقيقة فعل غير طبيعي يتطلَّب أن يكون المرء أذكى من تركيز عقله الطبيعي على الحاضر والمستقبل القريب.
بدلًا من شيطنة الإرادة الضعيفة والسيطرة الضئيلة على النفس، سأشير بإصبعي إلى «التأويل الزمني» و«تجنُّب الخسارة» باعتبارهما وحوش الانحيازات السلوكية التي تجعل اتِّخاذ قرارات جيِّدة مُتعلِّقة بحيواتنا بعد 20 إلى 50 عامًا صعبًا. إنَّ هذه الجوانب من علم النفس البشري هي ببساطة جزء من آلية التفكير، والطريقة التي يعمل بها العقل، وليست علامات على الغباء أو الجشع أو ضعف الإرادة. يشير «التأويل الزمني» إلى الميل إلى اختبار الأحداث البعيدة عقليًا بصورةٍ مختلفة عن الأحداث الأقرب، و«البُعد» و«القرب» في هذا النموذج يُشيران إلى الزمن أو المسافة.
يُفكِّر المرء في الأحداث أو الأفكار البعيدة زمنيًّا بصورةٍ مُجرَّدةٍ وعامة، مُغلَّفةً بطبقةٍ من التفاؤل، فالتفكير في نفسك (أو في أطفالك) بعد 40 أو 50 عامًا يصنع صورةً عقليةً شبيهة بتأمُّل فكرة مبهمة عامة وردية للغاية بدلًا من تصوُّر فردٍ ذي مشاكل حقيقية بالتفصيل. فكِّر في مفهوم التخطيط للتقاعد – بعد عامٍ واحد، أو بعد 10 أعوام، أو بعد 30 عامًا – وسيمكنك «رؤية» هذا بنفسك.
يصنع التفكير في نفسك (أو في أطفالك) اليوم أو بعد بضعة سنوات صورةً عقليةً أكثر تفصيلًا بكثير وأكثر صلابةً وأكثر وضوحًا وواقعيةً وأكثر تركيزًا على المشاكل المُحدَّدة المُفصَّلة التي تحتاج إلى حل. بمعنى آخر، المشاكل الموجودة على المدى القريب ستتلقَّى اهتمامًا أكثر كثيرًا من المشاكل على المدى البعيد وتُولِّد حافزًا أكبر كثيرًا منها لحلِّها، حتى إذا كانت المشاكل هامة بنفس القدر.
كيف نتجاوز هذا الأمر؟
كيف نزيل انحيازات الناس لكي يُفكِّروا في ذواتهم المستقبلية على نحوٍ أكثر صلابةً ووضوحًا؟ الإجابة السريعة هي أنَّنا بحاجة إلى تخيُّل ذواتنا المستقبلية بنفس الصلابة والوضوح، وأخذ الوقت الكافي لتصوُّر المشاكل التي ستواجهها ذواتنا المستقبلية بالتفصيل. بمعنى آخر، نحتاج إلى إجبار أنفسنا على التخطيط لذلك المستقبل البعيد بالتفصيل. لقد أوضح بحثٌ حديثٌ في الاقتصاد السلوكي أنَّ مواجهة المرء لنفسه المستقبلية وتصوُّر تمثيل واضح وصلب للنفس في المستقبل البعيد بإمكانهم بالتأكيد تغيير نواياه فيما يتعلَّق بالادِّخار، على الأقل في ظل الإعدادات التجريبية.
التحدِّي التالي هو ما يُطلِق عليه الاقتصاديون السلوكيون «تجنُّب الخسارة»، فالخسائر تبدو لنا أكبر كثيرًا من المكاسب. فكِّر الآن فيما يبدو أكبر للعاملين في الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمرهم، هل هي المكاسب التي يحصلون عليها من رواتبهم الحالية أم المكاسب التي يمكنهم وضعها جانبًا من أجل التقاعد بعد أربعين عامًا؟ لا، ما يبدو لهم كبيرًا، كبيرًا جدًا لدرجة تجعله يسيطر على أفكارهم عن الأحلام والآمال المالية، هو الأمل في خفض ديونهم والخوف من أن يرزحوا تحت نير الديون. من أين تأتي هذه الديون؟ لا تأتي من البذخ، وإنَّما من استثمارات مستقبلية عقلانية تمامًا ومقبولة اجتماعيًا. تمثِّل هذه الاستثمارات ديون القروض الدراسية، وتُمثِّل على نطاقٍ أكبر ديون الإسكان وديون القروض العقارية بصورةٍ أخص. رأيي أنَّ هذه الاستثمارات المستقبلية التقليدية تنجح لأنَّها تخلق شعورًا بالخسارة في الحاضر. وتُعيق هذه الضغوط الآنية الانتباه عن الاستثمارات طويلة المدى مثل التخطيط للتقاعد.
دعني أؤكِّد أنَّني لا أقول إنَّه على الجميع مد فترة سداد قروضه العقارية من أجل الإيداع في حسابات التقاعد، ففي هذا المجال هناك حاجة حقيقية للاستعانة بمُخطِّطين ماليين (وبرامجهم) لتقييم أثر معدلات الفائدة والمقياس الزمني وحجم كل وسيلةٍ من الوسائل.
أرى أنَّ التخطيط للتقاعد يواجه عائقًا نفسيًا طبيعيًا حتى عندما يحاول الناس التخطيط للمستقبل البعيد. إنَّ عقود القروض العقارية ونُظُم سداد الديون المشابهة أدوات هائلة لضبط النفس، فهي تخلق التزامًا طويل المدى وتُعزِّزه قانونيًّا من خلال عقدٍ مُلزِم، وكذلك نفسيًّا من خلال الخسارة الآنية التي يُمثِّلها الدين. لهذا الكثير من العواقب، ولكن العاقبة الأكثر صلةً هي أنَّ نُظُم السداد الحالية مُحفِّزة للغاية ومُستنزفة للانتباه.
يبدو خفض القرض العقاري وكأنَّك تقتطع قطعةً من الخسارة الآنية التي تلوح أمامك اليوم، وإبعاد هذه الخسارة أكثر صلابةً، وإرضاءً عاطفيًّا، ويتطلَّب وقتًا واهتمامًا أكثر من التخطيط لتحقيق مكاسب مالية لتتمتَّع بها بعد 40 أو 50 عامًا.
وبالتالي، لكي تحصل احتياجاتك للتقاعد في المستقبل البعيد على أي اهتمام، عليك الجلوس واتِّخاذ خطوات للالتزام تجاه صندوق التقاعد تمامًا مثل تلك التي تتِّخذها نحو قرضك العقاري. فقد أوضح ريتشارد ثيلر وشلومو بينارتزي أنَّ منهجية «ادِّخار المزيد غدًا» التي تزوِّد آليًا من الادِّخارات التقاعدية مع كل زيادةٍ في الراتب يمكن أن يكون لها أثر كبير على معدَّلات الادِّخار. كما أن تزويد الموظفين بخطة تقاعدية مبدئية تبدأ آليًا عند انضمامهم لمنظمة جديدة له آثار كبيرة أيضًا، فالتحدِّي الأكبر هو لفت انتباه الموظفين لاتِّخاذ قرارات فعلية بشأن المستقبل البعيد.