أخذت حقول صغيرة في سهلي مرج ابن عامر وعرابة تغطي الأرض، وتعطي كراتها الخضراء والصفراء، فيما يشبه العودة الخجولة لموسم البطيخ والشمام، الذي كان منتعشًا قبل قرون في جنين، قبل أن ينتهي عصره.
يقول المزارع علاء خلف: "جربنا هذا العام زراعة أرضنا في مرج ابن عامر بالشمام، وقد نجح المحصول نسبيًا من حيث الإنتاج والنجاة من الإصابة بالآفات، وخاصة "الفوزاريوم" الأشد فتكًا، لكن للأسف واجهتنا العديد من التحديات، أبرزها أن الأسواق المحلية لم تستوعب كمياتنا القليلة، فنبيع محصولنا بـأسعار زهيدة نسبياً ( 10 شواقل لكل كرتونة تتسع بين 4 حبات للنوعية ذات الحجم الكبير، و7 حبات للصنف الصغير في بداية الموسم)".
يزيد: "بالتأكيد، لن نستطيع المجازفة مرة أخرى مع هكذا أسعار، ونخشى أن لا يجد محصولنا من يشتريه، وبخاصة في شهر رمضان، ومع منافسة الشمام الإسرائيلي، الذي يبدو أكبر حجمًا، ولا نعرف كيف يجري إنتاجه، وبماذا يُسقى".
مُغامرة
ووفق خلف، الذي كان يطوف في أرضه، ويضع يده على قلبه، خشية أن يكتشف إصابات بـ"الفوزاريوم" في أيام المحصول الأخيرة، فإن التكاليف العالية لإنتاج المحصول، وتراجع أسعار الشمام والبطيخ، لا تشجع على العودة والمغامرة من جديد؛ لأن تكاليف الإنتاج عالية، والضربات في الأسعار المنخفضة متلاحقة.
يقول المهندس الزراعي في جمعية المهندسين الزراعيين العرب عمر الدمج: "انتعش هذان الصنفان في أواخر السبعينيات وحتى عام 1983، وكانا قبل هذه الفترة، ولكن بنسب أقل. والمشكلة الأبرز أن أمهات البذور البلدية للبطيخ والشمام فُقدت، وحلت محلها أخرى مُهجنة ومعالجة بطرق غير عضوية".
يتابع:" جمعنا في بنك البذور الذي أسسته (الإغاثة الزراعية) عينات من البطيخ البلدي (الملالي)، وهو مُحسّن من (الجدوعي)، الذي زرعه فلاحون من ميثلون، وبدأنا نفقد الكثير من البذور الأصلية".
تغييرات
واستنادًا إلى الدمج، فإن البطيخ الحالي ليس بلديًا، فهو ناتج من تطعيم على جذور القرع. ومما لا يعرف كثيرون، أن غالبية ما يصلنا من داخل الخط الأخضر من فاكهة ومحاصيل مروية بالمياه المعالجة، لذا تظهر الكثير من الفوارق عليها خلال التخزين، فسرعان ما يصيبها العفن، ويبدو طعمها مغايرًا عن الطعم التقليدي.
يعود المزارع خلف لرسم مشهد للتغيرات الحاصلة على البطيخ والشمام: "في الماضي لم تكن حاجة للري، ولا للأسمدة الكيماوية أو المبيدات، وكان وزن الثمرة كما يقول الآباء والأجداد يتجاوز العشرين كيلو. واللافت أن تأثيرات الزحف العمراني على الأراضي بدأت تظهر، فيتعرض الموسم للسرقة من الأطفال، الذين لا يميزون بين الشمام أو البطيخ الناضج، وكثير منهم لم ير في حياته نبتة البطيخ."
زحف وسرقة
على "جبهة ثانية" يقف المزارعان جمال وزيدان الحاج محمد في حقل بسهل عرابة، ويراقبان آخر التطورات في حقل للبطيخ، يقف صامدًا ليس ببعيد من بيوت باتت تزحف نحوه.
يقولان:" حتى الآن الوضع جيد، ولكنها زراعة مكلفة وتحتاج لرعاية أكبر، فالأشتال المُطعّمة على القرع مرتفعة الثمن ( الشتلة الواحدة بدولار، ويحتاج الدونم لنحو 330 منها)، والحقل بحاجة لحراسة ليس فقط من الأمراض والآفات، وإنما من الصبية، الذين لا يفرقون بين البطيخ الناضج والأبيض، فيحاول بعضهم التسلل ليلاً لقطافه، ومن ينجح في ذلك يرمي البطيخة بعد دقائق، حين يشاهد قلبها الأبيض."
ويخشى الأخوان الحاج محمد، من أن تتعرض الزراعة حديثة العهد إلى انتكاسة في الأسعار، في ظل إغراق الأسواق المحلية بالبطيخ الإسرائيلي الرديء في غالبيته.
يفيد السائق جعفر أبو عرة: " كان جدي يخزن البطيخ البلدي في منزله القديم، فيضع طبقة من التراب تحته، ويقلبه بين الفترة والأخرى. ويظل بحال جيد حتى بداية الشتاء، لكنه اليوم يتلف بعد أقل من أسبوع، حتى لو وضعناه في الثلاجة."
أسباب
وبحسب المهندس الدمج، فإن أبز التغييرات التي طرأت على هذه الزراعة، تتمثل في تراجع كميات الأمطار بشكل كبير، والاختلافات التي صارت تشهدها أربعينية الشتاء في درجات الحرارة المرتفعة، وانتشار الأسمدة والمبيدات الكيماوية على نطاق واسع، وارتفاع وتيرة الإصابة بأمراض التربة، التي لم تكن سائدة قديمًا، وإغلاق أسواق التصدير إلى الأردن ودول الخليج، وزيادة تكلفة مدخلات الإنتاج.
ويروي السبعيني موسى بريكي، الذي عمل سائقًا على سيارات البطيخ والشمام، حكاية نقله لهذه الأصناف إلى لبنان والأردن ودول الخليج، عبر وضع بالات للقش أسفل الحافلة للبطيخ، ووضع الشمام في صناديق خشبية (كانت تسمى شرحات)، ثم التوجه إلى الأسواق المركزية، للبحث عن التجار، بعد رحلة مباشرة من جنين إلى بيروت مرورًا بعمان.
يقول: "يومها كانت تجارة البطيخ والشمام رائجة، وفي أغلب المرات، قبل عام 1983 كان المزارعون يكسبون مبالغ محترمة مقابل محصولهم، لكن لاحقًا صاروا يخسرون، وفي بعض الأحيان لم تكن حمولة الشاحنة الواحدة تكفي أجرة سائقها."
عن "آفاق البيئة والتنمية"