وكالات - الاقتصادي - ثمة ظاهرة ملفتة بشأن تمركز الأثرياء في كل دول العالم تقريباً في المدن التي توجد في الغرب، بينما يمكث فقراؤها في المناطق الشرقية، مما دفع الباحثين لوجود سبب لهذه الظاهرة.
ويبدو السؤال واضحاً لدرجةٍ قد تجعلك تغفل بسهولة عن طرحه: لماذا تتركَّز المناطق الفقيرة غالباً في شرق المدن؟ للتوضيح، لا يتعلَّق الغموض بأسباب وجود مناطق راقية وأخرى متدنية في المدن - فالعيش في مناطق راقية وتجنب المناطق الاقل رقياً يُكلِّف مالاً وفيراً، ما يدفع فئةً من الناس للتمركز في مناطق محددة بفضل ثرواتهم. بل يتعلَّق اللغز بتساؤلٍ آخر وهو: لماذا ينتهي المطاف بفئات السكان الفقيرة للعيش في المناطق الشرقية بالمدن؟
الصورة الحقيقية لم تكن يوماً بسيطة أو سهلة ففي بعض الدول يمكث الفقراء في غرب المدن أيضاً، ولكن هؤلاء عدد لا يكاد يذكر، فمثلاً هذه المدن يوجد بها مقاطعات شرقية فقيرة مثل: لندن، وباريس، ونيويورك، وتورونتو، وبريستول، ومانشستر، وبرايتون وهوف، وأكسفورد، وغلاسكو، وهلسنكي والدار البيضاء. بالتأكيد هناك بعض المدن التي يتركز الفقر في غربها، لكن من الصعب العثور عليها فيما يبدو - ربما ديلهي وسيدني، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
كل حالة على حدة
يصبح شرح القصة أسهل عند تناول كل حالةٍ على حدة. في لندن، على سبيل المثال، تتركَّز أحواض السفن عند أسفل مجرى النهر شرقاً، ونادراً ما تكون هذه الأحواض نظيفة في أية مدينة. وعلى مدار التاريخ، كان نهر التايمز يجرِف المخلفات والروائح إلى الشرق. لا عجب أن الفقراء انتهى بهم المطاف في هذه المناطق، يمكنك قول هذا.
لكن انظر إلى باريس، حيث يتدفَّق نهر السين غرباً، تماماً مثل نهر آفون في مدينة بريستول البريطانية. أو نيويورك، والتي يمر بها نهران بالفعل، وتختلف تضاريسها تماماً. أو حتى مدينة برايتون، التي لا يوجد بها أي أنهار. وعلى الرغم من اختلافاتهم، لا تتغيَّر القصة أبداً: إذا قصدت الفقر، انظر صوب الشرق.
تذهب نظريةٌ إلى الاعتقاد بأن الأمر كله يتعلَّق بتلوث الهواء. تسود الرياح الغربية في دوائر العرض المتوسطة، والتي تتواجد بها غالبية مدن العالم، ما يعني أنها تهب ناحية الشرق. ساد اعتقادٌ لوقتٍ طويل بأن هذه الرياح قد تنقل الدخان والروائح الكريهة معها، وتقترح دراسة جديدة، أعدها كل من ستيفان هبليش، وأليكس تريو، ويانوس زيلبربيرغ لصالح مركز Spatial Economics Research، أن النظرية قد تكون صحيحة.
يقول زيلبيربيرغ: "نعمل على توثيق النقاشات غير المُثبَتة علمياً، والتي تتعلَّق بتركُّز التلوث في وسط المدن وانتقال الدخان إلى الشرق، بحرصٍ شديد. لاحظنا، بشكل أساسي، خلال الفترات الماضية أن التلوث وأنماط حركة الرياح دفعا الأغنياء إلى الهروب من المناطق الشرقية بالمدينة لأنها مُلَوَّثة للغاية".
وخلصت الدراسة إلى أنه لا توجد في أية مدينة بريطانية أنماطٌ لحركة الرياح قد تؤدي إلى تلوث مناطقها الغربية. بحث هبليش، وتريو وزيلبربيرغ عن أنماطِ تركُّز الفقر في الشرق قبل عصر التصنيع في القرن التاسع عشر، ولم يجدوها.
واكتشفوا أيضاً أن مستوى الحرمان في أية منطقة يتلاشى عندما يتقلَّص مستوى التلوث بها. يقول زيلبربيرغ: "يمكنك ملاحظة الفرق في نهاية القرن التاسع عشر، إذ باتت جميع الأحياء أقرب إلى الاعتدال والوسطية. إن المقاطعات الفقيرة ليست فقيرة للغاية. والمقاطعات الثرية ليست غنية للغاية. وبمجرد اختفاء التلوث، يعود كل شيء إلى حالته العادية".
إذا كان التلوث متركِّزاً بشدة في المدن، فإن نظام الفصل بين مناطق الأغنياء والفقراء يستمر حتى بعد زوال التلوث، إذ أن الصورة الذهنية، التي التصقت بالمدارس، والمرافق العامة، والبنية التحتية، وسمعة المنطقة، قد خلقت نمطاً يصعب تغييره.
لكن تجديد المناطق الشرقية وما صاحبه من تدفق الأغنياء إليها قد بدأ في تغيير نمط الفصل بين السكان بناء على مستوى ثراهم، لكن حدث هذا في المدن الكبيرة الغنية مثل باريس ولندن ومؤخراً فقط.
لم يكن الانجراف شرقاً نمط الفقر الوحيد الذي لوحظ في مدن العالم. وتتكوَّن على أطراف المدن الكبيرة، التي تنمو سريعاً، حلقات من الفقر تحيط بوسط المدينة الأكثر ثراءً، إذ يصل السكان الفقراء من المناطق الريفية بحثاً عن العمل والعيش في أرخص مكانٍ يجدونه، والذي يكون عادةً في أقصى أطراف المدينة. وعلى أية حال، عندما يصل هؤلاء الأشخاص إلى المدن الكبيرة، تكون أطرافها هي المكان الوحيد المتبقي لبناء منازل جديدة به. ومجدداً، تعتبر موسكو وباريس مثالاً جيداً على هذا، بالإضافة إلى غالبية المدن الصينية. وعلى الرغم من هذا، هناك بعض المراكز الحضرية الجديدة، التي شيدتها السلطات بالكامل، قد شهدت تحولاً مختلفاً.
أميركا نموذج مختلف
فهناك دولةٌ واحدة تشتهر بكونها استثناءً لهذه القاعدة. في الولايات المتحدة الأميركية، تكون الضواحي المحيطة بأطراف المدن عادة مكاناً يتمتع بقدرٍ أكبر من الثراء والسلام، بينما يرتبط داخل المدن غالباً بالفقر - تعد مدينة ديترويت أكثر نموذج شهير ومحزن لهذه الحالة.
إن أسباب حدوث الأشياء بشكلٍ مغاير في الولايات المتحدة غير واضحة وهي محل نقاشٍ كبير من قبل الأكاديميين. ويجادل البعض، مثل كينيث تي جاكسون، بأن "انعدام الثقة على المستوى القومي في الحياة الحضرية والعيش المشترك" يلعب دوراً هاماً في هذا الأمر، لكن بالطبع هناك عوامل أخرى.
بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، شُيِّدَت غالبية المدن الأميركية بحيث تتواجد مراكز صناعية في وسطها، لكن نجاح صناعة السيارات في السنوات الفاصلة بين الحربين العالميتين، سمح للأغنياء ببناء منازل أكبر لأنفسهم على أطراف المدن، لكن بالقرب من مناطق العمل. وبالفعل، صُمِّمَت بعض من هذه الضواحي الجديدة خصيصاً لإقصاء بقية السكان.
كتب أستاذ التاريخ الأميركي آن دوركين كيتنغ: "في عام 1916، أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكماً، في القضية المعروفة باسم Buchanan v Warley، يفيد بأن التقسيم العنصري للمناطق السكنية غير دستوري. ومع ذلك، استغل العديد من المُطوِّرين العقاريين شروطاً مقيدة في عقود بيع العقارات للحفاظ على ممارسات الإقصاء العنصري. وتمنع الشروط المقيدة مجموعات معينة من الأشخاص (يكونون غالباً من الأميركيين الأفارقة، لكن تنطبق الشروط أيضاً على اليهود، والكاثوليك وغيرهم من المجموعات بحسب المكان) من امتلاك أو تأجير العقارات".
وبشكلٍ عام، يمكنكم القول إن الأشخاص ينتهي بهم المطاف للعيش إما وفقاً للأنماط السائدة في مدن العالم الجديد أو القديم.
في العالم القديم، والذي تمثِّل أوروبا وآسيا معظمه، كانت المدن كبيرة ومُشيَّدة جيداً بالفعل قبل حلول عصر التصنيع. ويعني هذا أن طوفان العمال الفقراء كان مضطراً للذهاب والعيش على أطراف المدينة، وقد انتقلت العديد من المصانع إلى هناك أيضاً، تاركين مركز المدينة -وخاصة القسم الغربي منه- كي يبدو عتيقاً، ونظيفاً، وحضارياً.
وعلى الناحية الأخرى، كانت مدن العالم الجديد تُبنى غالباً حول المراكز الصناعية. دفع هذا الأغنياء إلى الهروب إلى الضواحي بسياراتهم والدفاع عنها بضراوة ضد الدخلاء. وبالفعل، فإن المدن البريطانية، والتي تحيط بها أحزمةٌ عمرانية، والتي بدأت مراكزها تُستعاد جزئياً، تشبه نظام الفصل العمراني الأميركي، لكن بمعايير أوروبية. ربما لدينا أزمة ثقة قومية أيضاً مثلهم.