وكالات - الاقتصادي - باريس، الكلمة وحدها تكفي لأن تجعلك تشعر بمزيج من المشاعر المختلطة بالسعادة والحب، حتى إن لم تزرها من قبل، ويكفيك أن تشاهد صور مدينة النور لتنبهر.
كل تفاصيل المدينة لها جاذبية خاصة، سواء كانت بالصباح أو المساء، ولكن الشيء الذي يتواجد باستمرار هو رائحة الخبز الطازج في كل مكان، فالخبز الفرنسي له مذاق خاص ويعشقه الملايين، ولكن هذا الخبز وراءه قصة كبيرة وأسرار خفية سوف تندهش عند سماعها.
فقد مر الخبز الفرنسي برحلة طويلة وله قصة غريبة جدا، قصة الخبز الملعون، الذي جنن الفرنسيين وكاد أن يقضي على فرنسا بأكملها، ففي القرن العاشر والخامس عشر، أصيب مئات، بل آلاف الفرنسيين بحالات غير مفهومة من الهلوسة ووجع الرأس الحاد والغرغرينة في الأطراف، والتي كان يروح ضحيتها الآلاف، دون أن يعرفوا السبب.
وعندما تكررت الحادثة في أكثر من مكان، لاحظ الفرنسيون أن هذه الحالات تصيبهم بعد تناول الخبز مباشرة، وتبين بعد ذلك، أن هناك فطر كان يغزو سنابل السلت، والذي كانت تستخدمه فرنسا ودول أوربا لمقاومة البرد، وعندما كان يتناوله الفرنسيون كانوا يصابون بالتسمم الأرغوني الموجود في دقيق السلت المستخدم في الخبز.
وشهدت عدة مدن فرنسا موجات التسمم الأرغوني والذي راح ضحيته خمسة آلاف شخص في غضون شهر واحد، وبحلول القرن السابع عشر ومع تقدم الطب، حاول البعض أن يجدوا علاج لهذا المرض وهذا التسمم الذي اجتاح فرنسا، ولكنهم لم يتمكنوا أن يسيطروا على هذه المشكلة.
واستمرت المشكلة، واستمرت حالات الجنون والصراخ والهلاوس تزداد في كل مرة بعد تناول الخبز وبعد ذلك توقفت قليلا، ومع حلول القرن العشرين، أصيب 300 شخص في قرية “بونت سانت اسبري” بعوارض مفاجأة بعد أن تناولوا الخبز، تطورت بعد ذلك إلى هلاوس حادة وحالات جنونية حادة، حتى أن الأشخاص كانوا يتخيلون وجود كائنات مفترسة تريد القضاء عليهم، وكان هناك بعض الأشخاص الذين يلقون بأنفسهم من النوافذ ظنا منهم أنهم يستطيعون الطيران.
وظن الجميع أن السبب في ذلك هو الخبز، وأن لعنة الخبز قد عادت مرة أخرى، ولهذا فتحت السلطات تحقيق في القضية، وكان المتهم الأول هو الخبازين في هذه القرية، ولكنهم تأكدوا أن الخبازين ليس لهم علاقة بالأمر وتم الإفراج عنهم.
وحينها، ظهر تفسير آخر، كان يؤكد أن السبب وراء هذه الحالات الجنونية هو الاستخبارات الأمريكية، والتي كانت تقوم بتجارب سرية أدت بسكان قرية في الجنوب الفرنسي إلى حالات جنون وهلوسة ومحاولات انتحار، و لكن هذه افتراضات لم تقنع الجميع، وظل السبب مجهول حتى الآن، إن كانت هذه الهلاوس وحالات الجنون من فعل الطبيعة أم من تدخل البشر.
وبعد انتهاء قصة الخبز الملعون، مر الخبز الفرنسي برحلة أخرى، بدأت مع قدوم الحرب العالمية الثانية، بعد أن احتلت ألمانيا جزء كبير من فرنسا، وحينها انقطعت التبادلات التجارية بين فرنسا والعالم، وحينها عرفت فرنسا أزمة طالت كل البضائع التجارية، ولعل أبرزها كان الخبز.
فكان الفرنسيون يعانون من الحرب والجوع، وكانت هناك صعوبة كبيرة في أن يحصلوا على قطعة خبز، إلى أن انتهت الحرب، ولكن بعد انتهاء الحرب، تميز المجتمع الفرنسي بأنه مجتمع طبقي بشكل كبير، والغريب أن كل طبقة كان لها الخبز المخصص لها.
فكان هناك ثلاثة أنواع من الخبز، الخبز الأبيض للطبقة الغنية، والخبز الرملي اللون للطبقة المتوسطة، والخبز الرمادي للطبقة الفقيرة، وهذا كان من ضمن أسباب خروج الثورة الفرنسية، ففي عام 1766، خرج صانعوا الأقفال، ليطالبوا بالمساواة، وكانوا يطالبون بتوحيد لون الخبز، الذي كان يفرق بين الناس ويجعلهم يشعرون بالفوارق الاجتماعية.
وحينها خرجت الثورة الفرنسية، والتي كانت تطالب بالمساواة، وكان من أهم وأبرز مطالبها هو “خبز المساواة”، فكان للثورة بعدا اجتماعيا كبيرا، وكان الهدف، أن يأكل الجميع من نفس الخبز، وهو الخبز الرمادي، ولكن الثوار رفضوا الأمر، وطالبوا بأن يكون الخبز الأبيض هو الخبز الذي يتناوله الجميع، ولكن الأمر كان في غاية الصعوبة بسبب عدم توافر المواد اللازمة لتوفير عدد كبير من هذا الخبز، ولهذا فشل مشروع “خبز المساواة”.
فنجد أن تاريخ الخبز الفرنسي مرتبط ارتباطا وثيقا بفرنسا، وأنه شهد العديد من التطورات والأحداث، وكانت الدولة تقوم بتحديد سعر الخبز حتى العام 1986، إلى أن توصلت فرنسا إلى “خبز الباغيت” الشهير، وعندما تم اختراع خبز الباغيت، تم تصنيفه كخبز فاخر، مخصص للطبقة ميسورة الحال، ولهذا لم يخضع لنظام التسعير الثابت، وأحدث نقلة كبيرة في تاريخ الخبز الفرنسي.
وتميز خبز “الباغيت” بأنه يتم تحضيره بسرعة كبيرة، وأن الخبازين أصبحوا يجنون الأرباح، خاصة مع ازدياد ثراء الناس، وتمكن الفرنسيين من تناول الخبز الطازج باستمرار، والأهم، أنه جاء ليجعل العمال يعيشوا حياة عادية في الليل، فبعد أعوام وأعوام من النضال الاجتماعي، ساعد خبز الباغيت أن يجعل العمال يعيشون حياة عادية في الليل، وفي نفس الوقت، يتناول الفرنسيين الخبز الطازج باستمرار.