عمان - الاقتصادي - ينابيع مياه رائعة وحوض سباحة منحوت من الحجر في وسط الصحراء، يعتمد على نظام ري وتخزين مياه ومتطور بشكل لافت.
كشفت عمليات التنقيب الأخيرة في منطقة البتراء عن نظام ري وتخزين مياه متطور تطوراً مذهلاً، وهو الذي ساعد أهل المدينة الصحراوية على البقاء على قيد الحياة، كما ساعدهم في الحفاظ على روضة بديعة تحتوي على ينابيع، وبرك مياه، وأيضاً حوض سباحة ضخم. وعكس تلك الأعمال الهندسية ووسائل الرفاهية الثراء والأبهة التي كانت عليها عاصمة الأنباط قبل ألفي عام، بحسب تقرير نشر في صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ربما تشتهر البتراء باحتوائها على الوادي الحجري الرملي الضيق الذي يقود مباشرة إلى "الخزنة" - وهو ومبنى حجري أثري يعود إلى حضارة الأنباط- التي ظهرت في المشهد الأخير من فيلم "إنديانا جونز والحملة الآخيرة" عندما نجا عالما الآثار اللذان لعبا دور البطولة بالفيلم وأدى دورهما هاريسون فورد وشون كونري، من الوادي الحجري الرملي ودخلا إلى الخزانة خلال بحثهما عن "الكأس المقدسة".
بيد أن منطقة البتراء اشتهرت منذ ألفي عام لأسباب مختلفة تماماً. فهي كانت من أشهر استراحات السقاية في الشرق الأوسط، حيث كانت طرق قوافل الجمال تربط بين المدن البعيدة.
والآن، يستكشف علماء الآثار عاصمة الأنباط الواقعة في الصحراء الجنوبية الغربية للأردن، والتي زينتها في الماضي روضة رائعة تعتمد على نظام ري صناعي. وتبرز فيها أيضاً ممرات يرجح أنها ظُللت بتعريشات الكروم، ونخيل التمر، والأعشاب التي استُزرعت بجوار حوض سباحة ضخم تبلغ مساحته 44 متراً.
كانت قدرة الأنباط على ترويض الطبيعة والاستهلاك الواضح للموارد الثمينة والمياه، محض دعاية لهم، إذ أنها كانت وسيلة لإظهار الثروة والسلطة. وقد تمكنوا من القيام بذلك بفضل النظام الهيدروليكي العبقري الذي اخترعوه، والذي لم يسمح للناس بالاحتفاظ بالمياه لحاجتهم وحسب، بل سمح لهم أيضاً بري الروضة الضخمة الممتلئة بالينابيع وحوض السباحة المفتوح. كان الاعتقاد السائد في الماضي هو أن المياه، المورد الشحيح بالصحراء، لا تستخدم لأي شيء غير الضرورة.
قال لي آن بيدال، أستاذ مشارك بعلم الإنسان من كلية بيرند بولاية بنسلفانيا، في مقابلة مع صحيفة هارتز الإسرائيلية "يشكل حوض السباحة المحطة الأخيرة لإحدى القنوات التي تنقل المياه من ينبوع يسمى "عين براك"، يقع في التلال خارج البتراء".
وأضاف قائلاً "العمارة الأثرية لحوض السباحة والروضة الخضراء كانتا رمزين لنجاح الأنباط في توفير المياه لوسط المدينة".
كشفت عمليات التنقيب المستمرة عن محور يبدو أنه كان يحمل المياه، إلى عمق يزيد عن 10 أمتار لينقلها من القناة إلى مستوى حوض السباحة. كما عثر علماء الآثار أيضاً على قنوات تحت الأرض ساعدت في التحكم في جريان المياه فوق سطح الأرض خلال موسم الأمطار، مما يفصح لأول مرة عن النظام المعقد حقاً الذي اتُبع لتنفيذ عملية الري.
يبدو أن ذلك النظام المعقد الذي احتوى على أنابيب مصنوعة من السيراميك وخزانات وصهاريج تحت الأرض، والذي كان يعمل أيضاً على تنقية المياه، أتاح لأهل البتراء أن يزرعوا المحاصيل ويحصدوا الفاكهة، ويعصروا الخمر وزيت الزيتون، فضلاً عن إنشائهم روضة ضخمة مع حوض سباحة هائل في الهواء الطلق، وكل ذلك في وسط الصحراء.
ري ظمأ الإبل مقابل بعض المال
عاشت كثير من حضارات العالم القديم على جانبي الأنهار، التي وفرت لهم مياهها الغزيرة الطعام والشراب والحماية أيضاً. بيد أن مدينة البتراء التي تقع على الحدود الشمالية الغربية للصحراء العربية، اشتهرت بسبب ندرة المياه.
اتخذت البتراء موقعاً لها في مفترق طريقين تجاريين مهمين: أحدهما ربط البحر الأحمر بدمشق، والآخر ربط الخليج العربي بغزة على ضفاف شواطئ البحر المتوسط. وكان على القوافل القادمة من الخليج، المُحمّلة ببضائع التوابل الثمينة، أن ترتحل لأسابيع عبر براري الصحراء العربية الممتدة لتصل في النهاية إلى الوادي الضيق الذي يقع في مدخل مدينة البتراء. تولت البتراء مهمة توفير الغذاء والمأوى، وفوق كل ذلك الماء البارد المنعش.
وبطبيعة الحال، لم توفر البتراء تلك الخدمات بدون مقابل. ذكر المؤرخ الروماني بيلينيوس، في المجلد الثاني عشر من موسوعة التاريخ الطبيعي التي كتبها، إنه -فضلاً عن الأموال المدفوعة مقابل الغذاء والمأوى- كان ينبغي إعطاء الهدايا إلى الحراس والكهنة وخادمي الملك. لكن الأسعار الباهظة للتوابل والعطور بالمدن الأوروبية المزدهرة حافظت على جلب القوافل لملء خزائن البتراء.
جنة البتراء
كانت الرياض فعلياً بمثابة المعجزة، إذ إن البتراء لم يتعد نصيبها السنوي من الأمطار 10-15 سنتيمتراً (في ظل التغير المناخي الحالي، قد تقل هذه النسبة)، ولا تغطي تلك الكمية سوى 4-6 أقدام فقط. لذا، بدون وجود تقنيات لشق القنوات وتنقية المياه، والتحكم في ضغط الماء أيضاً، لم يكن للبتراء أن تظهر من الأساس.
مثلما حدث في القدس، حفر أهل البتراء على سبيل المثال القنوات وبنوا الخزانات والصهاريج من الحجارة الصلبة، وحتى الصهاريج الأخرى التي تعمل على تنقية المياه.
وبالفعل كانت كل قطرة مياه تسقط في البتراء تُجمع وتحفظ. وحفرت الينابيع التي وُصّلت بأنابيب تنقل المياه إلى مئات الصهاريج المحفورة تحت الأرض، من أجل التأكد من توفير مياه الشرب والاستحمام في قلب الصحراء، بغض النظر على اختلاف المواسم والفصول.
وصف المؤرخ اليوناني إسطرابون البتراء في القرن الأول قبل الميلاد، إذ قال في المجلد السادس عشر من موسوعته عن الجغرافيا "ينابيع تحتوي على مياه وفيرة للأغراض المنزلية وأيضاً لري الحدائق".
تشير الدراسات النباتية إلى أن الروضة كانت مزخرفة للغاية ومزينة بأشجار النخيل والأعشاب. كما عثر علماء الآثار على بذور متفحمة وقشر الجوز، إلا أن ما تعنيه تلك الاكتشافات لا يزال محلاً للبحث.
يقول بيدال للصحيفة "يُرجح أن تلك البذور المتفحمة وقشر الجوز الذي وجدناه كان من الأسمدة، لذا فهي لا تعد دليلاً على أن تلك النباتات كانت تُزرع في الحديقة".
ذوق الرفاهية لدى الحشمونيين
بني حوض السباحة الضخم، الذي تصل ضخامته حد أنه يفوق أحواض السباحة الأولمبية، في القرن الأول قبل الميلاد على وجه التقريب.
وكانت أحواض السباحة بدأت في الانتشار بالمنطقة قبل بناء حوض البتراء بقرن، أي في القرن الثاني قبل الميلاد. بنى حكام مملكة يهودا الحشمونيون أحواض السباحة المحاطة بالحدائق في قصورهم. فقد احتوى قصر الحشمونيين في أريحا، وهي منطقة قاحلة أيضاً، على 7 أحواض سباحة على أقل تقدير.
اتبع هيرودس العظيم، ملك يهودا الحليف للرومان، ذات التقليد وبنى حوض سباحة ضخم مع حديقة تغمرها المياه في قصر الشتاء الثالث الخاص به بأريحا. احتوى التصميم الهيرودي على خيمة بالجزيرة الاصطناعية، وبلاط مزخرف، وشرفة مزخرفة كبيرة تطل على الروضة، وهي تشبه حوض السباحة بروضة مدينة البتراء إلى حد كبير.
مدينة منحوتة في الصخور
فضلاً عن إتقان مواطني البتراء العمل على توفير المياه والسقاية، كان من بينهم خبراء في عمليات البناء. تستدعي كلمة "البتراء"، وهي الكلمة التي تعني كتلة الصخور، صورة الصخر إلى المخيلة، وهي في الحقيقة كانت مدينة من الحجارة، على عكس معظم المناطق الأخرى في العالم الروماني.
تكبد الأنباط عناء تشييد معابدهم وبناء منازلهم ومقابرهم من الصخور الصلبة. وقد كانت جبال الصخور الرملية الحمراء التي احتضنت المدينة مناسبة لذلك الغرض تماماً، وبحلول القرن الأول قبل الميلاد ظهرت المدينة أمام الأعين في وسط الصحراء.
ولعل الشاهد الأكبر على مدى إتقان عمل الأنباط على الحجر، هو مبنى الخزانة، الهيكل الضخم المنحوت على منحدر ضخم. وتمت تسمية المبنى على اسم جرة الحجر التي تُتوِّج أعلاه والتي يُفترض أن يُخزن فيها الذهب والأحجار الثمينة. أما الجرة نفسها، فهي مصنوعة من الحجر الصلب.
ومع ذلك، أياً كان ما تخيله ستيفن سبيلبيرغ، فالمبنى لا يؤدي إلى أي متاهة عميقة تخفي الكأس المقدسة. ولكن الخزانة تحتوي على قاعة صغيرة نسبياً بدلاً من ذلك، كانت تُستخدم كمقبرة ملكية.
كما تتميز المدينة ببعض المقابر المنحوتة في مقدمة المنحدر، وهي في غاية الضخامة، يصغر أمامها كل من يتجرأ على المغامرة بالمرور إلى داخلها المظلم.
تمكنت البتراء من الصمود على مدى قرون، ولكن ما إن استولت روما على المدينة في عام 106 من العصر الحالي، حتى بدأت أهميتها في التجارة العالمية تتضاءل. وتشهد صفوف الأعمدة والمسرح على الوجود الروماني في المدينة خلال القرنين الأول والثاني. ولكن مع مرور الوقت، بدأ الرومان في توسيع الممرات المائية إلى الشرق، وانهارت تجارة التوابل، وتم هجر البتراء شيئاً فشيئاً ما بين رمال الصحراء. حتى توارت تماماً في نهاية حكم الإمبراطورية البيزنطية، في حدود عام 700.