على الرغم من أن ممارسة الغش، سواء في مجال العمل أو الرياضة، أمرٌ يتنافى مع الأخلاق؛ فإننا نُقْدِمُ عليه في بعض الأحيان، فما السبب في ذلك؟
وقبل انطلاق دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية في ريو دي جانيرو؛ تفجرت فضيحة كبرى في مجال الرياضة، أشعلت اهتمام وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، وهي تلك المتعلقة بمنع كل أعضاء فريق ألعاب القوى الروسي – ماعدا رياضية واحدة – من المشاركة في تلك الدورة، بدعوى ضلوعهم جميعاً في برنامجٍ لتعاطي المنشطات حظي برعاية الدولة الروسية.
وخلال الدورة نفسها، تنامت إلى مسامعنا اتهامات رياضيين لزملائهم بالغش في المنافسات، كتلك الاتهامات التي وجهتها السباحة الأمريكية "ليلي كينغ" لغريمتها الروسية يوليا إفَموفا، أو ما ورد على لسان السباح الأسترالي ماك هورتون، من اتهامات ضد منافسه الصيني سون يانغ بتعاطي منشطات محظورة.
لكن تحقيق مكاسب بوسائل لا أخلاقية لا يقتصر على مجال الرياضة فحسب. فهناك العديد من الأمثلة، في حياتنا العملية أو الشخصية، أو على صعيد تفاعلاتنا الاجتماعية، التي قد يصبح فيه حصول المرء على ميزة تنافسية بشكل سري وغير أخلاقي أمرا ذا إغراءٍ لا يُقاوم تقريباً.
ولكن هذا لا ينجم فقط – كما يقول الخبراء – عن الطمع البشري؛ ولذا يثور السؤال؛ ما هي تحديداً الأسباب التي تدفع البعض للإقدام على الغش؟ هل الأمر لا يعدو أنهم يتسمون بالطمع أو يفتقرون للوازع الأخلاقي؟ وهل مجتمعنا، بما يغلب عليه في غالبية الأحيان من طابع تنافسي، يشجع على اللجوء إلى هذا الخيار أم لا؟
وقد خلص علماء النفس إلى أن إغراء الفوز بمسابقة أو منافسة، قد يدفع الناس لأن يكونوا أقل نزاهة؛ فيما يتعلق بالوسائل التي يتبعونها لتحقيق هذا الهدف، وإلى أن الانضواء تحت لواء فريق، ربما يقود إلى اتباع طرقٍ مُخادعة بشكل أكبر.
ويعكف عاموس شُرّ، وهو خبير في علم نفس السلوك بجامعة بن غوريون الإسرائيلية، على دراسة كيف يمكن لسلوك مجموعةٍ ما أن يجعل اللجوء للغش يبدو مقبولاً، وكيف يمكن أن تقود الرغبة في الفوز بإحدى المسابقات أو المنافسات إلى أن يصبح الناس أكثر قابلية للتصرف على نحوٍ أقل نزاهة.
وأجرى فريق البحث اختباراتٍ شملت 23 مبحوثاً، جرت مراقبتهم، وهم يمارسون ألعاباً مثل إلقاء النرد، أو وهم يخوضون مسابقاتٍ تشمل أسئلةً تختبر القدرة على التذكر أو المعرفة بالمعلومات العامة.
ورصد الباحثون كيف يعلن كلٌ من هؤلاء المبحوثين بنفسه عن النتائج التي يحققها في الألعاب والمسابقات. ومما زاد من أهمية هذه النتائج، أنه كان يترتب عليها ربحٌ مادي، يعتمد مثلاً، على الرقم الذي توقف عليه حجر النرد حينما ألقاه هذا المبحوث أو ذاك.
واكتشف فريق البحث أن المبحوثين، الذين حققوا الفوز في إحدى مسابقات القدرة على التذكر أو المعلومات العامة، كانوا أكثر ميلاً لأن يكونوا أقل نزاهة في المسابقات التالية، مُدعين أن من حقهم الاحتفاظ بأموال أكثر مما يستحقون.
وينصب اهتمام الفريق الذي يقوده عاموس شُرّ؛ على بحث كيف يمكن للمرء أن يتصرف على نحو غير أخلاقي، حال مروره بخبرة تتسم بطابع تنافسي، وكذلك كيف يمكن لقيم مجتمعٍ أو مجموعة ما، أن تدفع الناس للجوء إلى الغش.
ويقول شُرّ في هذا الصدد: "نحن كائنات اجتماعية، وعندما ننضوي تحت لواء جماعات، نتبع الأعراف التي تُرسيها تلك الجماعات".
وتفيد دراسة تحليلية جرت في جامعة نوتينغهام البريطانية، بأن الناس يلجئون إلى الغش عندما يُشجعون على ذلك من قبل أقرانهم. وكشفت الدراسة عن أن التعاون في هذا الصدد قد يتيح فرصة كبيرة للفساد.
وقد طُلِب ممن شملتهم الدراسة بأن يتعاونوا معاً في لعبة إلقاء النرد، لتحقيق مكسب مالي؛ إذ كانت اللعبة تقوم على أن يلقي أحدهم النرد ويخبر زميله أو زميلته بالرقم الذي استقر الحجر عليه، وإذا ما ألقى هذا الزميل أو الزميلة الحجر وتوقف على الرقم نفسه، فإن ذلك يعني استحقاق الاثنين مكافأة مالية.
وربما لن يكون مفاجئاً هنا أن نعلم أن المبحوثين اتفقوا في كثيرٍ من الأحيان على الكذب لكي يتسنى لهم جني الأموال.
فعلى سبيل المثال؛ تبين أن عدد المرات التي قال فيها المشاركون إن حجريّ النرد توقفا على الرقم ذاته، زادت بنسبة تناهز 500 في المئة عن العدد الذي كان متوقعاً؛ إذا ما كان المبحوثون يتسمون بالصدق.
واكتشف الباحثون أن الفساد تفشى بشكل أكبر في المجموعات التي جرى فيها توزيع الأرباح بالتساوي بين أفرادها، وكذلك حينما كان هؤلاء الأفراد يرتبطون بصلات قوية ببعضهم البعض.
وخلص معدا الدراسة أوري فايزلاند وشاؤول شالفي إلى أن الفساد والسلوك اللا أخلاقي الكامنيّن في صلب الفضائح المالية التي شهدها العالم مؤخراً، ربما لا يكونا مدفوعيّن بالطمع وحده؛ ولكنهما ناجمان كذلك عن نزعة البشر للتعاون مع بعضهم البعض أحياناً في ممارسات غير نزيهة، وكذلك عن وجود فرصة لدى المرء للحصول على مكافأة، إذا ما انتهج سلوكاً مشابهاً لما اتبعه أقرانه.
ويقول الباحثون العاملون في مجال تحليل أساليب الغش والخداع إن السبل التي يتبعها البشر في هذا المضمار آخذةٌ في التغير والتبدل، وهو ما يمثل مشكلةً كبيرة في مجالات كالسياسة والمعاملات المالية، وفي مستويات الإدارة العليا في الشركات والمؤسسات.
فبفضل التقدم التكنولوجي؛ أُتيح للطلاب والموظفين والعمال، وسائل متطورة للغش، وذلك على نحو غير مسبوق.
ويقول فيليب دَوسون، المدير المساعد لمركز أبحاث التقييم والتعلم الرقمي بجامعة ديكين في ولاية فيكتوريا الاسترالية، إن هناك آفاقاً جديدة للغش؛ تتضمن - مثلاً - قرصنة الاختبارات إلكترونياً، والاستعانة بالأدوات المتوافرة على شبكة الإنترنت، من تلك التي تُمكِنُ المرء من إعطاء إجاباتٍ ربما لم تكن ناتجةً عن اجتهاده.
ومن أمثلة ذلك، اجتياز المرء الاختبار بوسائل ملتوية؛ كأن يستعين بنصٍ حصل عليه عن طريق استخدام خدمة الترجمة، التي توفرها غوغل على الشبكة العنكبوتية.
كما أن ممارسات التلاعب والفساد تتكشف كذلك على نحو مفاجئ في أماكن العمل؛ مثل شركات تقديم الاستشارات التي توفر تقاريرها لجهات موزعة على بقاع مختلفة من العالم، أو في وسائل الإعلام أو الجامعات.
ولكن دَوسون يقول إن العالم يشهد أيضاً تزايد الوسائل التي يمكن من خلالها كشف محاولات الغش والتحايل، مثل الاستعانة بمواقع إليكترونية كموقع Turnitin؛ الذي يكشف محاولات البعض سرقة نصوص وأفكار غيرهم، والادعاء بأنها من بنات أفكارهم.
ويضيف دَوسون بالقول إنه غير مقتنع بأن "مستوى الغش قد بات أكثر أو أقل (حالياً) مقارنةً بما كان عليه في السنوات الماضية. لقد أصبح مختلفاً فحسب".
ويرى أن ضغط الوقت وارتفاع تكاليف المعيشة، دفعا الكثيرين للاعتماد على مصادر إضافية للدخل بجانب رواتبهم الأصلية، وذلك لتلبية متطلبات حياتهم، وهو ما قد يحدو بعددٍ أكبر من الناس للتفكير في اللجوء إلى طرق غير أخلاقية أو قانونية لجني المال.
وبالمثل؛ ربما يصبح الغش خياراً جذاباً؛ بالنسبة لمن هم في حاجة ماسة للوقت، من الطلاب الرازحين تحت ضغط ناجم عن ضرورة اجتياز الاختبارات التي يخوضونها.
على أي حال؛ هناك أخبارٌ سارة لمن يشعرون منّا بالذنب، وربما يريدون تحسين سلوكياتهم وتصرفاتهم، في مكان العمل، لتصبح أكثر اتصافاً بالأمانة والنزاهة.
فقد أشار بحثٌ أُجري في كلية "مدرسة هارفارد للأعمال"؛ حول ما إذا كانت رؤية المرء لأشخاص آخرين يتصرفون على نحو مُخادع قد تزيد من نزعته نحو انتهاج السلوك نفسه، إلى أن تقييمنا لسلوكياتنا بشكل موضوعي قد يُضعف أي إغراء لدينا للجوء للغش.
وخلصت الدراسة إلى أن المجموعة ككل، تصبح أكثر ميلاً للتصرف بشكل ينطوي على غش وخداع، إذا ما أقدم أحد أفرادها على ذلك.
وفي إطار الدراسة، تبين أن مجموعة من الأصدقاء صارت تنزع بشكل أكبر نحو الغش في الاختبار، عندما رأى أفرادها واحداً منهم يفعل ذلك.
لكن الأمر تغير، عندما رأت مجموعة أخرى شخصاً غريباً عنها، يتبع التصرف نفسه، إذ دفعها ذلك لتبني قيم مختلفة، والتصرف بشكل مغاير، وهو ما يعني أن مجموعة الأصدقاء تصبح أكثر ميلا إلى إكمال الاختبار دون اللجوء إلى الغش إذا ما رأت شخصاً غريباً يقترف هذا السلوك.
ويخلص شُرّ هنا إلى أن تعريف "السلوك غير المقبول" ليس ثابتاً؛ بقدر ما يعتمد الأمر هنا على الزاوية التي يرى منها الناس تصرفاتهم.
ومن هذا المنطلق؛ فإذا كنا نريد أن نصبح أكثر صدقاً وأمانة في التعامل، فربما يجدر بنا الإبقاء على خصومنا، ممن لا يتصفون بهذه الصفات، على مقربة منّا، لكي نستطيع أن نحكم على تصرفاتنا - في هذه الحالة - بشكل موضوعي؛ مقارنةً بتصرفاتهم.
وكالات