كثر تداول الحديث عن حساسية القمح «الجلوتين»، وأصبح تجنب الأطعمة المحتوية عليه عادة شائعة اعتبرها البعض «موضة غذائية» حتى إن بعض الأطباء وإلى وقت قريب لم يكونوا يلقون لها بالاً، وكثير ممن يعانون أعراضها يستبعدون أن تكون تلك الأعراض ناتجة عنها، ولكن ما هي الحقيقة العلمية المؤكدة التي تقطع الشك باليقين وتعين الشخص على اتخاذه القرار بشأن تناولها أو الابتعاد عنها؟
يقول د. ديفيد ساندرز استشاري أمراض الجهاز الهضمي بمستشفى رويات هولامشاير في شيفيلد، إنه وكثير من الأطباء الآخرين يرون أن من يجد معاناة بعد تناوله للأطعمة المكونة من القمح فإنه بالتأكيد يعاني مشكلة صحية لأن تلك الأطعمة لا تؤثر إلا فيمن يعاني «أمراض الاضطرابات الهضمية»، والتي يهيجها بروتين القمح «الجلوتين»، فعندما تطحن حبوب القمح ويصنع منها الخبز والحلويات والأطعمة الأخرى فإن الشخص بتناولها يكون قد تناول كمية من الجلوتين الذي يثير لديه أعراض الحالة إن كان ممن يعانونها، وتظهر تلك الأعراض كاستجابة يقوم بها جهاز المناعة تجاه الجلوتين فتؤثر في الأمعاء وتمنع امتصاص الجسم لبعض المغذيات المفيدة مثل الكالسيوم لذلك فإن على الشخص الذي يعاني تلك الحالة اعتماد نظام غذائي خال من الجلوتين مدى الحياة حتى لا يتعرض إلى مضاعفات صحية لاحقاً ربما تصل إلى حد الإصابة بهشاشة العظام أو التعرض - ولكن بنسبة بسيطة - إلى أحد أنواع سرطان الجهاز الهضمي، ولكن في بعض الحالات يشعر الشخص بأعراض مشابهة لتلك الحالة مثل الانتفاخ والخمول والإسهال أو الإمساك بعد تناول أطعمة تحتوي على الجلوتين، بالرغم من أن نتيجة الفحص تدل على أنه لا يعاني أمراض الاضطرابات الهضمية وعندها - كما يذكر د. ديفيد- يكون الشخص لديه حالة «عدم تحمل الجلوتين»، ويقول ذلك الطبيب إنه قام بجمع بيانات المرضى على مدى 7 سنوات، من المرضى الذين أفادوا بأنهم يعانون مشاكل تجاه الجلوتين، ولكن ليس لديهم أمراض الاضطرابات الهضمية، وكانوا في الأغلب من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 30-40 عاماً، ولديهن أعراض القولون العصبي، وتقريباً نصفهن لديه الجينات المرتبطة بأمراض الاضطرابات الهضمية.
يكمن الفرق بين «أمراض الاضطرابات الهضمية» و«عدم تحمل الجلوتين» في طريقة استجابة الجهاز المناعي والتي تختلف قليلاً بين الحالتين، ففي حالة «أمراض الاضطرابات الهضمية» يقوم بروتين القمح «الجلوتين» بتحفيز خلايا جهاز المناعة المعروفة بالخلايا التائية (T cells) التي تحفز بدورها الخلايا المهاجمة التي تتلف الخملات وهي النتوءات الشبيهة بشكل الإصبع المصطفة بالسطح الداخلي للأمعاء الدقيقة وعمل على امتصاص المغذيات من الطعام، وينتج جهاز المناعة أجساماً مضادة تتذكر كيفية مهاجمة الجلوتين مستقبلاً كما يفعل في مهاجمة الأمراض التي تعرض لها من قبل وهو ما يعرف بـ«الجهاز المناعي التكيفي»، أما في حالة «عدم تحمل الجلوتين» فإن جهاز المناعة تختلف استجابته التي تبين من بعض الدراسات أنها تكون بواسطة جزء مختلف منه يعرف بـ«جهاز المناعة الفطري» والذي تكون استجابته المناعية تلقائية تشبه تلك التي تكون ضد العدوى البكتيرية ولا يقوم جهاز المناعة بتخزينها وتذكرها، ولكنها في الوقت نفسه تسبب الالتهابات التي تؤدي إلى ظهور الأعراض.
استخدم الباحثون من جامعة مستشفى شلسوي هولستين بألمانيا، تقنيات تصويرية قوية تسمى «التنظير متحد البؤر» لمتابعة ما يحدث بسطح الأمعاء الداخلي لدى من يعانون «عدم تحمل الجلوتين»، وذلك بإدخال الأطعمة المسببة للحالة مباشرة إلى داخل أمعاء 36 شخصاً ممن يعانون القولون العصبي وعدم تحمل بعض الأطعمة، فوجد الباحثون ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد الخلايا المهاجمة بالجهاز المناعي وذلك بعد 5 دقائق فقط لدى 61% من المرضى؛ ويتضح من ذلك أن لبروتين القمح تأثيراًَ في تعرض الأمعاء للهجوم وليس فقط لدى من يعانون أمراض الاضطرابات الهضمية، وأن مرضى القولون العصبي ربما تكون لديهم أمراض الاضطرابات الهضمية لذلك يجب إجراء الاختبار لهم ويحكي د. ديفيد ما حدث معه عندما تم تحويل مريضة إليه قبل سنوات عديدة تعاني القولون العصبي، من قبل طبيب ممارس عام وذلك لاستمرار الأعراض لديها، وكانت عندها في منتصف الأربعينات من العمر، وعلقت قائلة إنها تتساءل إذا كان لديها مرض الاضطرابات الهضمية وكان الطبيب قد أخبرها أن لديها القولون العصبي وهو التشخيص غير المحدد الذي كان متبع آنذاك، حيث إن الأمراض المتعلقة بالجلوتين لم تأخذ الحيز الذي هي عليه الآن، لذلك فإن د. ديفيد نفسه لم يكن مقتنعاً بظنها ووافق على مضض بعد إلحاح منها على أن يجري لها فحص أمراض الاضطرابات الهضمية بنوعيه أي عينة الدم والخزعة من الأمعاء، وجاءت النتائج مؤكدة ظن المريضة، لذلك قام د. ديفيد وزملاؤه بإجراء دراسة للبحث في وجود علاقة بين أمراض الاضطرابات الهضمية والقولون العصبي، حيث تم فحص مجموعة من مرضى القولون العصبي للكشف عن أمراض الاضطرابات العصبية ووجدوا أن 4.7% منهم يعانون تلك الحالة، 7 أضعاف أكثر عن المجموعة التي لا يعاني أفرادها القولون العصبي.
تتخفى أحياناً أعراض أمراض الاضطرابات الهضمية المتعلقة بالأمعاء وربما يكون ذلك ناتج عن اختلاف بالاستجابة المناعية من شخص لآخر، فيما يتعرض البعض إلى ظهور الطفح الجلدي المعروف بـ«التهاب الجلد الحلئي».
تأثير الاضطرابات الهضمية في الدماغ
تؤدي أمراض الاضطرابات الهضمية غير المكتشفة والتي تشخص في الأغلب على أنها القولون العصبي، إلى أعراض تتعلق بالجهاز العصبي مثل التشوش والصداع، وهي أعراض ناتجة عن نقص المغذيات بسبب تضرر الأمعاء، وأحياناً تنتج تلك الحالات بسبب أن الجلوتين نفسه يؤثر مباشرة في الدماغ، ويؤكد ذلك الورقة الطبية التي قدمها أحد الأطباء عام 1996 والتي جاء فيها أن 54% ممن يعانون أمراض الجهاز العصبي لديهم أجسام مضادة بالدم مقارنة بـ12% ممن لا يعانون تلك الأمراض، كما كشفت الخزعات المأخوذة من الأمعاء عن أن 16% ممن يعانون أمراضاً متعلقة بالجهاز العصبي يعانون أيضاً أمراض الاضطرابات الهضمية، فكثير منهم يعاني الترنح مجهول السبب، وعدم التآزر بين حركة اليدين والرجلين، ويحدث ذلك عندما تتعرض أحد أجزاء الدماغ المعروفة بـ«المخيخ» إلى التلف، وهو الجزء المسؤول عن تنظيم حركة العضلات، وبعد أن امتنع بعض المرضى ممن يعانون تلك الأمراض العصبية عن تناول الأطعمة المحتوية على الجلوتين، تحسنت حالتهم جميعاً حتى من لا يعانون أمراض الاضطرابات الهضمية؛ وهنا تأتي أهمية تقييم الحالة بطريقة صحيحة بعيداً عن وصفها بالقولون العصبي حتى يتم الاتجاه إلى الغذاء الصحيح وتتحسن حالة كثير من المرضى، ويكون التشخيص أفضل عندما يكون الشخص ما زال على عادته في تناول القمح.
ارتفعت أعداد الإصابة بأمراض الاضطرابات الهضمية خلال السنوات الأخيرة ففي بريطانيا على سبيل المثال وصلت النسبة إلى شخص واحد من بين كل 100 فيما كانت شخص واحد من بين 8.000 في عام 1950، وربما يعود السبب في ذلك إلى كثر تناول الجلوتين في أشكال مختلفة وأطعمة ربما لا يتوقع البعض أن تكون محتوية عليه، وفي دول مثل الدول الآسيوية التي تعتمد الأرز كنظام غذائي لها، لم تكن تعرف في السابقة ذلك المرض ولم يرد ذكره قديماً ضمن الأمراض التي كانت موجودة لديهم، إلى أن اتجهت بعض من تلك الدول في الآونة الأخيرة إلى الأطعمة الغربية الغنية بالجلوتين كالخبز والبيتزا، فظهرت لديهم تلك الأمراض، كما أن هنالك أسباباً أخرى تتعلق بكيفية زراعة القمح، حيث أصبح يزرع كقيمة اقتصادية وليس كقيمة غذائية، لذلك تم إخضاعه لبعض التعديلات المتعلقة بكيفية زراعته كما أن به بعض الإضافات، وجميعها عوامل تزيد من نسبة البروتين به، فالشريحة منه تحتوي على 2.5 - 3 غرامات، فيكون الشخص قد تناول خلال اليوم ما يعادل 15-20 غراماً من خلال تناوله للأطعمة اليومية المختلفة التي اعتاد عليها.
وكالات