تزداد الأحوال النفسية سوءاً في قطاع غزة مع تردّي الظروف الاجتماعية أكثر فأكثر. ولعلّ إقدام الغزيين على الانتحار، من تبعات ذلك التدهور. وتُلحظ حالات انتحار أو محاولات لإنهاء الحياة، أسبوعياً، منذ بداية العام الجاري، من دون أن يعني ذلك أن الأمر مستجدّ.
في بداية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وضع شاب من حيّ الزيتون، جنوب مدينة غزة، حداً لحياته وقد تناول مبيدات زراعية. وكشف تقرير الطبيب الشرعي أنه تناول كمية كبير وقاتلة من المبيدات. يُذكر أن عائلته أبلغت الشرطة أنه تناولها عن طريق الخطأ. وبيّنت التحقيقات أن الشاب البالغ من العمر 23 عاماً وهو أب لطفلين، انتحر بسبب خلافات عائلية.
كذلك أقدم شاب من مدينة خان يونس على الانتحار، بشنق نفسه بحبل في حقل زراعي في دير البلح في المحافظة الوسطى. لكن ثمّة شكوكاً حول الحادثة، إذ يعتقد بعضهم أنه كان ضحية جريمة قتل، على الرغم من أن المعاينات الأولية أشارت إلى أنه من وضع حداً لحياته.
من جهة أخرى، شهد الغزيون قبل أسبوع، عند ظهيرة التاسع من فبراير/ شباط الجاري، محاولة انتحار لشاب ثلاثيني في مدينة غزة. وكان قد تسلّق برج إرسال فوق عمارة سكنية، مهدداً بالانتحار أمام الجميع. تجمّع المئات من حوله، فراح يخاطبهم بصوت عالٍ ويعيد قرار إنهاء حياته إلى معاناته من الفقر الشديد، خصوصاً أنه معيل أسرته، وما من دخل شهري له. لكن، قبل أن يلقي بنفسه، تلقى وعوداً بتحسين وضعه، فيما أنزلته طواقم من الدفاع المدني. وقد أثارت قضيته ضجة لدى الرأي العام الغزي، إذ دفع سوء الوضع المعيشي هذا الأب إلى محاولة الانتحار لعدم مقدرته توفير لقمة عيش لأبنائه.
قبل ذلك، كان الشاب عزمي يونس البريم (32 عاماً) من خان يونس، قد أقدم على إحراق نفسه بالقرب من دوار بني سهيلا جنوب القطاع، فجأة أمام السائقين. وعمل عدد من المواطنين على إطفاء النار التي اشتعلت في جسمه، إلى حين نقله إلى المستشفى. قُدّرت نسبة الحروق بسبعين في المائة. تجدر الإشارة إلى أن البريم كان قد حضّر لانتحاره بشكل كامل، ونشر على حسابه الشخصي على موقع "فيسبوك" تدوينة تداولها أصدقاؤه قبل ساعة من إحراقه نفسه. كتب: "عشت حياتي كلها وأنا نِفسي أنهي حياتي والآن أنا سأنهي حياتي آخر أمنياتي". ويشير أحد أقارب البريم لـ "العربي الجديد" إلى أن "محاولة عزمي ليست الأولى في شرق خان يونس، لكن حالات كثيرة يتستّر عليها الأهل. وعزمي وصل إلى مرحلة لم يعد قادراً على التحمل، إذ عجز عن تلبية احتياجات أطفاله".
تجدر الإشارة إلى أن محاولة البريم أتت الثالثة خلال أربعة أيام في خان يونس، لتتبعها محاولة شاب قطع شرايينه أمام بوابة مستشفى الشفاء، كأن في ذلك طلباً للنجدة. وقد مُنع من ذلك في اللحظات الأخيرة.
حاولت "العربي الجديد" الحصول على رقم دقيق لحالات الانتحار في غزة، من الجهات الأمنية المختصة والصحية، إلا أنها لم تحصل على رد. لكن مصدراً طبياً من داخل قسم الاستقبال في مستشفى الشفاء، كشف لنا أن "عشرات محاولات الانتحار سجّلت منذ بداية العام الجاري. لكن من يقدمون على ذلك، غالباً ما يدخلون الطوارئ وهم فاقدو الوعي، في حين أن عائلته لا تجرؤ على الاعتراف بأنها محاولة انتحار، بسبب تخوفها من تحقيقات الشرطة".
يضيف أن "أكثر حالات الانتحار التي نستقبلها تنتج عن تناول سمّ تجاري بكميات كبيرة، أو جرعات أدوية بكمية كبيرة. أما آخرون فيعمدون إلى قطع شرايين اليد، فيما النسبة الأقل تلجأ إلى الشنق". ويشير إلى أن "الحالات تزايدت بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي".
وفي هذا الإطار، يشرح المتخصص في علم النفس مدحت شعت انتشار ظاهرة الانتحار في غزة، بأنها "حالات اغتراب نفسي لدى الشباب في غزة بشكل كبير. خلالها يفقد الشباب الثقة بمن حولهم، لتسيطر عليهم حالة من الوحدة بشكل كبير". يضيف: "وخلال معايشتهم الواقع السيئ وعدم حدوث أي تغير، يضطرون إما إلى الهجرة أو الإدمان أو الانتحار. ولأنهم لا يستطيعون الهجرة من غزة، وعدد منهم لا يُقبل على الإدمان، فإن نسبة الأمل في الحياة تكون ضعيفة، وهو ما يدفع عدداً منهم إلى التفكير بالانتحار".
ويوضح شعت أن "بإمكان الإنسان تحمّل حرمانه من الماء والغذاء لفترة زمنية، لكنه لا يستطيع العيش لدقائق من غير أمل. وفي غزة، الأمل مفقود ومقوّمات الحياة معدومة". وكان شعت قد نظّم جلسات عدّة مع شباب في بعض المناطق المهمشة، وجد خلالها أن الشباب من مناطق وسط القطاع وجنوبه هم "الأكثر تعرضاً لحالات الاكتئاب النفسي، ويفتقدون الأمان الحياتي".
من جهته، يلفت رئيس قسم تطوير خدمات الصحة النفسية في وزارة الصحة هشام المدلل، إلى أن "حصار غزة أثّر في جميع مناحي الحياة النفسية والصحية والاقتصادية، ولم يستثنِ أي فئة". يضيف أن "ثمّة مؤشرات تشير إلى زيادة عدد مراجعي الخدمات النفسية في جميع مراكز الصحة النفسية"، قائلاً إن "القلق والاكتئاب، خصوصاً بين الأطفال والشباب، هما من المؤشرات الخطيرة".
نقلا عن العربي الجديد