كان رئيس الطهاة "ميغيل غارسيا" على وشك أن يبدأ بعد دقائق في تحضير وجبة من خمسة أطباق لنحو 550 شخصاً مدعوين لمأدبة "مؤتمر كأس مونت كريستو وبطولة كرة الغولف" في بورتريكو. في تلك اللحظات، اكتشف وجود مشكلة ما بحساء الخرشوف.
لقد استعمل أحد الطهاة المبتدئين، عن طريق الخطأ، جذور نبتة طعمها غير محبب. كان ذلك يعني إعادة طهي تلك الكمية الضخمة من جديد. في ذلك الوضع، سيكون من الصعب تقديم الوجبات في وقتها المحدد.
لقد توجب على غارسيا أن يتدارك الموقف بسرعة. لكن كان لا بد أن يتصرف أولاً مع الطاهي المخطيء.
يقول غارسيا "في بدايات ممارستي لمهنتي، رأيت رؤساء طهاة يرمون الأطباق على الأرض، ويصرخون ويفصلون الناس من وظائفهم على الفور".
غارسيا الآن هو الرئيس الطهاة التنفيذي في "فنادق ومنتجعات أروبا ماريوت" حيث يساعد في الإشراف على العاملين في المطابخ، وعددهم 136 شخصاً.
ويضيف: "لكن ستتعلم بأنك ستكسب المزيد إذا ما تمالكتَ أعصابك وساعدت العاملين لديك".
بدأ غارسيا والطاهي المبتديء في تقشير الخرشوف. واستعان باثنين من الطهاة العاملين في إعداد المعجنات، بينما طلب من طباخ آخر إعداد اللحم المقدد.
في النهاية، تم تحضير 50 جالونا من حساء الخرشوف في الوقت المناسب ليتبع وجبة السلطة، مما أبقى ذلك العشاء الرفيع المستوى ضمن الجدول الزمني الصارم.
صبرُ "غارسيا" مع ذلك الطاهي المبتدئ هو درس في الإدارة الصائبة يحتاج المديرون الجيدون أن يتقنوه. لكن فكرة الرد بأسلوب متوازن، من خلال تأمل المشكلة قبل القيام بأي تصرف، والانتظار، ليس على الدوام هو رد فعلنا الفوري في حالة تنطوي على درجة عالية من التوتر.
مقاومة نفسك
ويرى بيتر بريغمان، استشاري المديرين التنفيذيين وفِرقِهم القيادية في مدينة نيويورك أن التحلي بالصبر يتعارض مع أكثر الغرائز الأساسية عندنا.
هناك منطقة في الدماغ تدعى "الجسم اللوزي" مسؤولة عن إدراك وتقييم الاستجابات السلوكية المرتبطة بـ"المواجهة أو الهرب" عندما نواجه ظرفاً صعباً يدفعنا إلى التوتر، مما يعني أننا مهيأون تلقائياً للرد باندفاع أو تهور.
إلا أن الاستسلام لنزعاتنا الغريزية الأساسية هو بالضبط ما يجب على المديرين ألا يقوموا به.
ويقول بريغمان: "تتطلب أكثر القرارات الإدارية ردود فعل مدروسة بعناية، والكثير من التفكير والتأمل، وليس ردود فعل متسرعة وغير محسوبة".
جدير بالذكر أن "بريغمان" هو مؤلف كتاب يتناول الدور المهم لأخذ فترة قصيرة للتفكير، وأخذ نَفسٍ واحد عميق، في تغيير السلوكيات غير الإيجابية.
يشعر كثير من المديرين وكأن عليهم أن يستجيبوا بسرعة وأن يكون لديهم الجواب المناسب دوماً. ومع ذلك، يولد هذا حالةً تجعل الموظفين يعتقدون بأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى حل هي من خلال إثارة الأمر مع مديريهم.
عوضاً عن ذلك، يقوم المديرون الجيدون بتعليم العاملين لديهم لكي يتخذوا القرارات بأنفسهم، حسب قول بريغمان. سيشجع ذلك في الوصول إلى حلول مبتكرة، كما ستجعل العاملين يشعرون بأنهم مخولين بأخذ الأمور على عاتقهم.
ليس هذا بالأمر الهين. حيث يعني أنه عندما يبلغك موظف عن مشكلة ما، فربما تدعهم يفكرون في حل حتى وإن كنت تعلم مسبقاً ما هو. لكن الصراع مع معضلة ما سيتعلّم ذلك الشخص أكثر بكثير مما لو قام شخص آخر ببساطة بإعطائه الحل.
يقول بريغمان: "تحتاج إلى قدرٍ استثنائي من ضبط النفس لتستفيد منه كلحظة ملائمة للتعلم. وعلى مستوى شخص مبتديء جداً، نحتاج إلى الصبر والحلم لنأخذ نفساً عميقاً ونتأنى ونقول، ’ما هو أفضل مخرج لما أواجهه الآن؟'".
مأزق الناشئين
تعلم مايكل سفين وشركاؤه في شركة "زينديسك" الصبر والتأني عندما أسسوا شركتهم الناشئة عام 2007.
كانت الشركة تبيع برامج خدمة الزبائن المستندة على الحوسبة السحابية. وأداروا شركتهم من مطبخ منزلي في كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، بمدخراتهم التي كانت تقرب من 50 ألف دولار أمريكي.
كانت الموارد تُستنفد بسرعة عندما عرض عليهم مستثمر بلغ نصف مليون دولار أمريكي كتمويل أولي.
في البداية، اعتبر سفين وشركاؤه أن الاستثمار وسيلة سريعة لتسويق برنامجهم. لكن، كلما تأملوا في المستثمر، زدات تساؤلاتهم.
يقول سفين، المدير التنفيذي لشركة "زينديسك": "كان يحاول الاستفادة من الصفقة لمصلحته الخاصة فقط. أنت تعلمُ تماماً أن الموافقة على أخذ المال سيجعلك تعاني من آلام في المعدة. غير أن الرفض سيسبب لك أيضاً نفس الألم".
في نهاية الأمر، أقنع سفين شركاءه برفض ذلك العرض. واجهوا صعوبات كبيرة لستة أشهر أخرى قبل أن يتمكنوا من جمع الأموال اللازمة من أصدقائهم وأفراد عائلاتهم.
كان المبلغ كافياً لتشغيل الشركة حتى وجدوا مستثمرين أكثر ملاءمة في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، ثم نقلوا شركتهم إلى سان فرانسيسكو. في العام الماضي كان للشركة، التي أصبحت الآن شركة مساهمة عامة، إيرادات بلغت 127 مليون دولار أمريكي، ولها 57 ألف عميل في 150 بلداً من بلدان العالم.
يقول سفين: "عند تأسيس شركة ناشئة، عليك التحلي بالصبر لأنها تنمو ببطء شديد. يتوجب عليك أن تشعر باستمرار أنك تندفع إلى الأمام، لكن عليك أيضاً أن تكون حليماً لكي تتخذ قرارات صائبة".
إنه درس تعلمه غارسيا منذ سنين عديدة مضت. فقد تعلم غارسيا فن الطهي في سن متأخرة، بعد أن جرب الدراسة في كلية الحقوق في موطنه الأصلي، جمهورية الدومينيكان.
وبعد إكماله الدراسة في معهد للطهي، حصل على عمل في مطعم بأحد الفنادق، وبدأ ليلة عيد الميلاد.
وتعلم رئيس الطهاة "ميغيل غارسيا" قيمة الصبر بعد أول عمل له في مطعم فندق.
كانت أول مهمة له هي تقشير وتحضير 25 صندوقاً من الخرشوف، نفس ذلك الخضار الذي حيّر طاهيه الشاب بعد سنين عديدة. في مهمته الأولى تلك، أوضح له رئيس الطهاة مرة واحدة كيف يفعل ذلك، ثم تركه يكمل عمله.
يقول غارسيا: "كان اختباراً للقدرات تحت وطأة ضغط العمل. تعلمت حينها أن الطبخ يحتاج إلى التأني. إذا عملت بسرعة كبيرة لتحضير الخرشوف، فربما تجرح يديك. أما إزالة الجزء السميك منه فليس بالأمر السهل. العملية كلها تتطلب الصبر والتأني".
لذا، عندما أفسد الطاهي المبتدئ حساء الخرشوف في تلك الوليمة الكبيرة، علم غارسيا أن ذلك الشاب يحتاج إلى الصبر ليساعده في التقدم في عمله.
ويقول غارسيا: "إذا تورطتَ في مشادة كبيرة، وأخذت تصيح وتصرخ قائلاً، ما الذي دفعك للقيام بهذا؟، فما الأمر الإيجابي الذي ستحصل عليه؟".
ويضيف: "ستضيع وقتك فقط. عوضاً عن ذلك، كل ما عليك القيام به هو إصلاح ذلك الخطأ".