جلس طيلة الوقت بجانبنا صامتا، فتى غر يلامس حدود الطفولة مع خط رفيع لبداية شارب ارتسم على شفته وعينان تحملان الكثير من الحزن وطلب منا عدم كشف هويته او ذكر اسمه.
درس في ذات الصف حيث كان الطفل "المتوفي" وأراد ان يتحدث عنه، حصل على لغته الانجليزية الممتازة بجهوده الذاتية من خلال متابعة افلام الكرتون التي شاهدها بكثرة في سنوات طفولته المبكرة لكن اكثر الافلام التي علقت بذاكرته يحمل اسم "مملكة جنة عدن" الذي يتحدث عن الفترة الصليبية وهنا وليس من باب الصدفة كما يبدو تدخل "اسماعيل" والد الطفل "هيثم" ليقول لنا ان ابنه "المتوفي" ايضا كان يجيد الانجليزية وأيضا "م" - " الرمز الذي اختاره الكاتب والصحفي اليساري الاسرائيلي غدعون ليفي صاحب هذه المقالة المنشورة اليوم السبت في صحيفة هأرتس العبرية للتعريف بالشاهد الوحيد على قضية استشهاد الطفل هيثم اسماعيل البو الذي التقاه في قاعة العزاء " - كان في الصف " التاسع" مثل ابنه هيثم.
وهمس الفتى "م" قائلا " لقد اخذوا اعز ما املك.. كان هيثم بالنسبة لي اكثر من اخ لقد احببناه اكثر من روحنا لقد كان اكثر الطلاب ذكاء وأفضلهم على مستوى المدرسة وحصل هذا العام على معدل 87 ".
تزينت قاعة المناسبات الجديدة في بلدة حلحول شمال الخليل بعدد لا يحصى من بيانات اعلانات وبوسترات التبجيل لتخليد الطفل الذي شهدت ايام عزائه نشر عدد غير مسبوق من البوسترات منذ فترة لم نشاهد مثلها في حلحول.
تعرض عشرات "الدكاكين" على مدخل حلحول الخردة القادمة من اسرائيل: مغاسل، غسالات، وقطع الاثاث التي تخلص منها الاسرائيليون يمكن مشاهدتها هنا وحين وصلنا القاعة استقبلنا "اصحاب العزاء" كالعادة كما في بيوت العزاء التي عقدت في الاشهر الماضية استقبلونا بمشاعر مختلطة من العداء والشك والضغينة والاستنكار الشديد وكادت وجوه الشباب تنفجر من شدة الغضب خاصة وان غالبيتهم لم يسبق لهم ان شاهدوا اسرائيلي غير مسلح لكن الاكبر سنا ممن علوا في اسرائيل اظهروا الاحترام "للضيوف" غير المدعين.
لم يكمل هيثم الـ15 من عمره وظهر في الصور الملصقة على جدران القاعة وقد اعتمر وشاحا اسودا لفه على رأسه.
هيثم هو الابن البكر بين شقيقاته الثلاثة اللواتي يصغرنه في السن ويعمل والده "إسماعيل" البالغ من العمر 43 عاما عامل بناء في منطقة " كريات غات " ويبدو كانه لم يستوعب حتى الان ما حدث فما ترتسم على شفتيه اثناء سرده لمجريات الاحداث التي شهدتها جمعته السوداء " يوم الجمعة " ابتسامة حزينة .
ذهب اسماعيل وابنه يوم الجمعة الى الصلاة حيث تجمع مئات المواطنين وقال انه ضرب موعدا مع ابنه ليلتقيان بعد انتهاء الصلاة لكنه لم يجده على مدخل المسجد كما طلب منه والان يقوم "اسماعيل" وبتثاقل بمداعبة بعض حبات العنبر بين اصابعه "يسبح بالمسبحة".
حين لم يجد "اسماعيل" ابنه على مدخل المسجد عاد الى منزله وبعد وقت قصير سمع عبر التلفاز بمقتل شخص على شارع 60 ليس بعيدا عن مدخل المدينة لكنه لم يتصور ان هذا القتيل هو ابنه ووحيده الذي احبه لقناعته ان هيثم لن يتورط مطلقا في "مثل هذه الاشياء".
كان الوقت ما بعد الظهر، حين تأخر هيثم في العودة للمنزل بدأ والده بالاتصال في العيادات والمستشفيات ليستوضح فيما اذا تم نقل ابنه اليها وفي النهاية توجه الى مستشفى الاهلي في مدينة الخليل " فقط حين رأيت الجثة بأم عيني تأكد ان هيثم قد قتل لقد كانت صدمة مروعه " قال اسماعيل .
في الجثة التي رآها كنت عدة اصابات بالرصاص. وقال الممرض معتصم البو الذي شاهد الجثة وقرأ التقرير الطبي ان رصاصتين اخترقتا جسد هيثم، واحدة اصابة مرفقه "يده" من الخلف فيما اخترقت الثانية جسده نحو الصدر وتصيب الرئة قبل ان تصعد الى رقبته لتصيب وجهه وتلحق ضررا كبيرا في منطقة الفم ويبدو ان هيثم قد فارق الحياة فورا.
وفقا لأقوال ابناء العائلة، قيل لهم ان الجنود اخذوا جثة ابنهم الى معسكر عتصيون قبل ان يسلموها للفلسطينيين بعد ان تدخل رئيس بلدية حلحول في الامر وبغض النظر عن السبب فقد استلموا الجثة خلال وقت قصير.
بإستثناء "وجدي" ابن عم "هيثم" والذي يدرس في نفس الصف والجنود لم يكن هناك أي شهود ليروا ما حدث وليقولوا لماذا قتلوا "هيثم".
كان "وجدي" الشخص الوحيد برفقة "هيثم" حين قتل وتم اعتقاله فورا ومنذ ذلك الوقت يقبع في معتقل "عوفر" دون ان يسمح لأي شخص بزيارته.
وقع الامر على هامش طريق 60، وهو الشارع المركزي الذي يخترق الضفة الغربية، وعلى مسافة مئات الامتر فقط من المدخل الشمالي لمدينة حلحول، وعلى بعد 2 كلم من المسجد الذي ادى فيه " هيثم" صلاته الاخيرة.
يبدو ان الطفلين هيثم ووجدي قد سارا على هامش الشارع رقم 60 وفقا للادعاءات التي قالها الجيش فور وقوع الحادث ؟ لكن هل تكفي نية طفل القاء زجاجة حارقة حتى يقتل رميا بالرصاص؟.
لم يتحدث احدا مع "الاب" ليخبره بما جرى لابنه وهذا ما يعذبه بشدة. على الاقل اراد ان يعرف بالضبط ما حدث لابنه، لكن يبدو انه لن يعلم بحقيقة ما جرى مطلقا.
يوجد عشرات العائلات الفلسطينية التي تشبه حالة "اسماعيل" ولا تعلم شيئا عما جرى لأعزائها. مجرد اطلقوا عليهم النار؟ سألت والد هيثم الذي اجاب " لا اعرف شيئا، لم يتحدث الي احد، انا متأكد انه لم يشكل خطرا على احد، انه مجرد ولد طفل ولم يكن مدربا على المس بالناس " وهنا قال الناطق بلسن الجيش الاسرائيلي ردا على استفسار "هارتس" ان الشرطة العسكرية فتحت تحقيقا وسيتم تحويل النتائج الى النيابة العسكرية فور الانتهاء من التحقيق.
صعد للمنصة في قاعة العزاء صديق اخر من اصدقاء هثيم ومن مدرسته والقى كلمات لذكراه قال فيها " الله اكبر يا شهيد، سنحقق انتصارنا بالدم، هذه البلاد هي وطننا ولن نتنازل عنها مطلقا ".
وكان التأثر باديا على الطفل الصديق الذي القى بالكوفية على كتفيه وربما بهذه الطريق ولدت "العملية" القادمة الان ومع انتهاء اليوم الدراسي يتدفق الى القاعة عشرات الطلاب الذين درسوا مع هيثم بل ربما كامل طلاب المدرسة.
جلس "م" صديق "هيثم" الى جانبنا وقال لنا هامسا " الاسلام ليس ارهاب، نحن الاسلام الحقيقي ونحن لا نرغب بقتل الناس نحن لسنا شعبا من الارهابيين نحن لسنا داعش نحن فقط نحاول الدفاع عن وطننا الذي سكنا فيه لمئات السنين ولن نتنازل عنه مطلقا سنبقى هنا وكذلك سيفعل اولادنا وأحفادنا".
واضاف " هثيم استشهد لاجل وطنه، قتلوه وهو طفل قتلوه لانهم يريدون القتل، قتلوا حتى الان 180 فلسطيني خلال الاشهر الاخيرة لماذا ؟ لماذا؟ وقتلوا في غزة قبل سنتين تقريبا اكثر من 2000 فلسطيني بينهم مئات الاطفال فقط لانهم فلسطينيون . فلسطين ستتحرر وحياة هيثم لن تذهب هدرا انا اعرفه جيدا هو ليس بالشخص الذي يلقي زجاجة حارقة مرة اصبته في جسده عن طريق الخطأ وشرع بالبكاء فتأسفت واعتذرت له وهكذا انتهى الامر لقد كان اكثر الاطفال الذين قابلتهم وعرفتهم حساسية ورقة لقد كان افضلهم وأنا متأكد انهم اطلقوا عليه النار دون أي سبب ".
واختتم "غدعون ليفني" مقالته بالقول والاقتباس عن "م" ايضا "م" لا يعرف ما حدث بالضبط وقد عرف عن موت صديقه عبر الفيسبوك.
"استلقيت على السرير وأجهشت بالبكاء" قال "م" بصمت قبل ان يواصل " اصبت بصدمة كبيرة وقد قبلته على وجنته اثناء الجنازة لقد كان وجهه اجمل من القمر لقد ذهب الى الجنة".
واختتم "م" كلامه مع " غدعون ليفي" قائلا " فقط اريد منك ان تكتب القصة الحقيقة عن هيثم.
نقلا عن معا