حتى أكثر الناس ذكاء يمكنهم أن يكونوا حمقى. الصحفي ديفيد روبسون يشرح لنا كيفية تجنب الوقوع في شراك أسوأ طرق التفكير وأكثرها شيوعا.
إذا كانت لديك شكوك في مقولة إن الأذكياء يمكن أن يتصرفوا بغباء، فما عليك إلا أن تتذكر الوقت الذي حاول فيه واحد من أذكى الناس في أمريكا، الرئيس بنجامين فرانكلين، أن صعق ديك رومي بالكهرباء. لقد حاول أيضا أن يحبس "نيران كهربائية" في عبوات زجاجية ليحولها إلى بطارية بدائية.
كان يعتقد أنه لو نجح في ذلك فستكون تجربته مثار إعجاب، خصوصا إذا تمكن من استخدام التفريغ الكهربائي في قتل وشواء الطيور التي يتناولها على العشاء. وقد تحولت تجربته إلى خدعة معتادة في الحفلات، حيث أبهر ضيوفه بهذه القدرة السحرية على التحكم في هذه القوة الغريبة.
أثناء أحد هذه العروض، ارتكب فرانكلين خطأ جوهرياً عندما أصابه نوع من تشتت الذهن، فلمس أحد العبوات الزجاجية التي يسري بها التيار بينما كان يمسك في يده الأخرى سلسلة معدنية. وفي وقت لاحق كتب يقول: "قال الحضور إن الوميض كان كبيرا، وصاحبه صوت كأنه انطلاق رصاصة من مسدس. ثم شعرت بما لا أعرف جيداً كيف أصفه، ضربة كبرى شعرت بها في كل جسمي؛ من رأسي حتى أخمص قدمي، وكذلك من الداخل كما هو من الخارج، وكان أول ما لاحظته هو الهزة العنيفة والسريعة لجسدي."
من الواضح أن الذكاء لا يعني كم أنت عاقل ومنطقي. ومع أنه من السهل التندر بالشيء الغريب الذي فعله فرانكلين، فإن الأمثلة الأخرى أكثر واقعية. الجراح الأمريكي أتول غاواند كتب بوضوح شديد عن مأساة كبرى في الطب المعاصر.
فعلى الرغم من المهارات المذهلة التي يتمتع بها الجراحون، إلا أنهم يمكن أن يتسببوا في وفاة المرضى بسبب عدم المبالاة. وقد يكون الأمر بسيطا لدرجة أن ينسى الجراح أن يغسل يديه، أو أن يستعمل ضمادات نظيفة. في مجال المال والأعمال، التفكير المحدود وقصر النظر قد يؤديان إلى انهيار الشركة بالكامل.
طريقة جديدة للتفكير
يقول روبرت ستيرنبيرغ، الأستاذ بجامعة كورنيل، إن المشكلة هي أن نظامنا التعليمي ليس مصمما ليعلمنا أن نفكر بطريقة مفيدة طوال العمر. الامتحانات التي نستخدمها، مثل SATs أو A-levels في بريطانيا، تقوم على تخمينات متواضعة لأي شيء، إلى جانب الدرجات المدرسية.
ويضيف: "ترى طلاباً يحصلون على درجات ممتازة، لكنهم فاشلون في فنون القيادة. وترى فنيين رائعين ولكن بدون قدرة على التمييز أو التزام بأخلاقيات العمل. ويصل هؤلاء إلى مناصب متقدمة، مثل نائب رئيس أو رئيس للشركات، أو المنظمات الكبرى، وهم غير مؤهلين لتولي هذه المناصب."
ما الذي يمكن عمله إزاء ذلك؟ يدعو ستيرنبيرغ ومعه آخرون الآن إلى نوع جديد من التعليم، من شأنه أن يعلم الناس كيف يفكرون بطريقة فعالة أكثر، إلى جانب الأعباء الأكاديمية التقليدية. ومن الممكن لأفكارهم أن تساعدنا جميعاً- مهما كان مستوى ذكائنا- على أن نتجنب ولو قليلا التصرفات الحمقاء.
أولاً: تعرف على التحيز الأعمى لديك
هل تقول لنفسك إنك أكثر ذكاء من عموم الناس؟ أولسنا جميعا نفكر بذات الطريقة؟ يعزى ذلك الأمر إلى ما يعرف بـ "التفوق الوهمي"، وهو شعور منتشر بين الناس، وخصوصا الأشخاص من ذوي القدرات الأقل.
لكنك ربما تجادل، وتزعم أنك ذكي استناداً إلى التقارير التي توثق اجتيازك للاختبارات، أو بناء على أدائك المثير للإعجاب في مسابقات قياس مستوى الذكاء المعروفة بـ "آي كيو".
إن كنت كذلك، فأنت مصاب بما يطلق عليه "التحيز التوكيدي"، والذي يعني الميل إلى انتقاء الدلائل التي تؤيد وجهة نظرك فقط. فإن كنت ما زلت غير مقتنع بذلك، فإن علماء النفس يقولون إنك تشكو مما يعرف بـ "تحيز النقاط العمياء" وهو الميل إلى إنكار العيوب في تفكيرك الشخصي، وكأن لديك مناطق عمياء في دماغك لا ترى إلا ما تريده أنت.
إن حقيقة أننا جميعاً مصابون ببعض التحيز دون وعي منا بذلك، تحيط بكل شيء حولنا، بداية من القرار بشراء منزل جديد، إلى وجهة نظرك بشأن الصراع في شبه جزيرة القرم. لحسن الحظ، يجد علماء النفس أن الناس يمكن أن يتدربوا على اكتشاف هذه التحيزات الموجودة لديهم في اللاوعي. ويوجد حوالي 100 نوع منها.
ثانياً: كن متواضعا
كتب الشاعر ألكساندر بوب في القرن الـ18 يقول: "لا ينبغي أن يشعر الإنسان بالعار من الاعتراف بالخطأ، لأن ذلك يعني بكلمات أخرى أنه اليوم أكثر حكمة من الأمس."
بالنسبة لعلماء النفس في هذا العصر، هذا السلوك سمة أساسية في الشخصية تعرف بالانفتاح العقلي. هذه السمة تقيس مدى سهولة تعاملك مع حالة عدم اليقين، ومدى سرعتك واستعدادك لتغير رأيك بناء على شواهد ومعطيات جديدة.
إنها سمة يجد بعض الناس صعوبة في التعايش معها، لكن تقييم الذات ومراجعة الشخص لنفسه من العوامل التي تظهر أثرها الإيجابي في المستقبل.
على سبيل المثال، يطلب فيليب تيتلوك، من جامعة بنسلفانيا، من الناس أن يتنبأوا بالأوضاع السياسية خلال السنوات الأربع القادمة. وقد وجد أن أفضل التوقعات أتت من أشخاص يتمتعون بنسبة ذكاء عالية ولديهم انفتاح عقلي.
التواضع الفكري يأتي في أشكال أخرى متعددة، لكن في قلبها تقع القدرة على أن تعرف حدود معرفتك. على أي أساس تبني قراراتك؟ إلى أي مدى يمكن تمحيص هذه الأسس والتأكد من صحتها؟ ما هي المعلومات الإضافية التي تحتاجها لتتخذ قرارات أكثر توازناً وصواباً؟ هل اطلعت على أمثلة مشابهة من باب المقارنة؟
إن اتباع هذه المنهجية يبدو أمراً أساسياً، لكن خذ بعين الاعتبار ما يلي: بذلك التدريب البسيط، تمكن عدد من العينة التي سألها تيتلوك من التفوق على توقعات موظفين في الاستخبارات، ربما كانوا أقل استعداداً للاعتراف بجهلهم.
ثالثاً: ناقش نفسك وكن صريحاً معها
إذا كان النقد الذاتي لا يناسبك، فهناك وسيلة للتقليل من تلك التحيزات، وهي أن تختار أن تتبنى وجهة النظر المناقضة لك، وأن تبدأ بطرح نقاش مضاد لقناعاتك.
هذا الجدال الداخلي يمكنه تفكيك أعتى عوامل التحيز لديك، مثل الثقة الزائدة بالنفس، والتمسك بالرأي، وهو الميل إلى الاقتناع بأول دليل تصادفه في طريقك.
وهناك تكتيك مشابه ولكنه متميز عن سابقه، ويتمثل في أن تضع نفسك في مكان الشخص الآخر، وتتخيل وجهات نظره.
ويمكن لهذا التكتيك أن يكون مفيداً بشكل خاص عند التعامل مع المشاكل الشخصية. فنحن عادة ما نكون أكثر حكمة عندما ننصح الآخرين، بينما لا نكون بنفس القدر من الحكمة عندما تتعلق الأمور بأشخاصنا.
رابعاً: تخيل باستخدام طريقة "ماذا لو..."
أحد أهم مآخذ ستيربيرغ على النظام التعليمي هو أننا لم نتعلم كيف نستخدم ذكاءنا ونكون عمليين ومبدعين. حتى لو أننا لم نعد نتعلم في المدارس بطريقة البصم، إلا أن كثيراً من المدرسين ما زالوا لا يعلمون تلاميذهم كيف يكونون مرنين في حياتهم العادية.
وإحدى الطرق لتطوير هذه المهارات يمكن أن تكون عن طريق تخيل وقوع الأحداث المهمة. يمكن لطلاب التاريخ أن يكتبوا بحثاً عن "ماذا كان يمكن أن يكون شكل العالم لو أن ألمانيا انتصرت في الحرب العالمية الثانية؟" أو "ماذا كان سيحدث لو أن بريطانيا ألغت الملكية كلياً في القرن السابع عشر؟"
إذا لم تكن مغرماً بالتاريخ، فان كتابتك لقصة تتخيل "يوم استقالة الرئيس" أو "يوم أن اختفت زوجتي" يمكن أن تشكل نقطة البداية.
قد نجد ذلك أمراً مصطنعاً ومتخيلاً، لكنه يرغمك على الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين الاحتمالات والفرضيات. يكتسب الأطفال ذلك النوع من التفكير الافتراضي غير الواعي المنافي للواقع عندما يلعبون لعبة التظاهر، التي تساعدهم على تعلم كل شيء، من القوانين، إلى الفيزياء، إلى المهارات الاجتماعية.
عندما نكبر لا نميل إلى ممارسة هذه اللعبة، لكن يمكن لأحدنا أن يجدها وسيلة لتوسيع المدارك عند مواجهة أمور غير متوقعة.
خامساً: لا تقلل من أهمية استخدام قائمة المهام
كما تظهر تجربة بنجامين فرانكلين، يمكن لتشتت الذهن وغياب التركيز العقلي أن يؤديا إلى اختفاء أهم الجوانب الإيجابية لدينا.
عند التصدي لأوضاع معقدة، من السهل تناسي الأشياء الأساسية، وهو السبب في أن الجراح الأمريكي أتول غاواند يدافع بقوة عن ضرورة وجود قائمة بالأشياء التي ينبغي التحقق من إنجازها، وذلك لتكون وسيلة لتذكيرنا.
في جامعة جون هوبكنز، على سبيل المثال، هناك قائمة للتحقق من خمس نقاط، تهدف لتذكير الأطباء باتباع وسائل النظافة. وقد أدت بالفعل إلى خفض معدلات الإصابة بالالتهابات التي تستمر لمدة 10 أيام، وذلك من 11 في المئة إلى صفر في المئة.
وهناك قائمة مشابهة تخص الطيارين لتذكيرهم بالإجراءات الأساسية عند الإقلاع والهبوط، أدت إلى خفض عدد الوفيات بين الطيارين في الحرب العالمية الثانية إلى النصف.
كما يشير غاواند، هؤلاء أشخاص مهنيون على قدر عال من المهارة والمعرفة بالتكنولوجيا الحديثة، ومع ذلك فإن ورقة بسيطة تحمل بعض التعليمات أدت إلى إنقاذ حياة الكثيرين.
مهما كانت وظيفتك أو مهنتك، هذه الحقائق تستحق أن تؤخذ في الاعتبار قبل أن تفترض أنك تعرف كل شيء مسبقاً. فقط تدرب على هذه الخطوات، وستكتشف أن لديك مواهب لم تكتشفها من قبل.
إن كنت تبحث عن الإلهام، فما عليك إلا أن تتذكر ستيرنبيرغ. فعندما كان طفلا صغيرا في المدرسة الابتدائية، رسب في اختبارات الذكاء، ولم يتمكن من إثارة إعجاب أحد من الناحية الأكاديمية.
ويقول في هذا السياق: "جميع المعلمين في مدرستي اعتقدوا أنني غبي". وكان على وشك أن يُطرد من المدرسة لولا أحد المدربين الذي اكتشف أن هناك جوانب أخرى من الذكاء غير تلك المطلوبة لحل مسائل الرياضيات.
لقد شجع ذلك المدرب ستيرنبيرغ على تعويد عقله على التعامل مع الأمور بنظرة أشمل وأوسع، وإليه يرجع الفضل في أن يصبح ستيرنبيرغ الآن أستاذاَ في جامعة كورنيل.
يقول ستيرنبيرغ: "الذكاء ليس مجرد درجة في اختبارات الذكاء، لكنه يكمن في القدرة على أن تحدد ما الذي تريده في الحياة، وأن تجد الطرق الكفيلة بتحقيق ذلك." حتى لو كان ذلك يتطلب المعرفة المؤلمة لجوانب الحمق والغباء في شخصيتك.