الاقتصادي- حنين غالب- يُعد الاقتصاد الفلسطيني نموذجًا مركبًا للاقتصادات الواقعة تحت الاحتلال، إذ يعاني من تشوهات هيكلية ناتجة عن بيئة سياسية وأمنية محتلة وغير مستقرة، وقيود سيادية مفروضة بموجب اتفاقيات ثنائية – أبرزها بروتوكول باريس الاقتصادي – تحد من قدرته على رسم سياسات مالية وتجارية مستقلة. وفي ظل تفاقم الأزمات الداخلية، يبرز سؤال جوهري: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول العربية في إعادة تحفيز هذا الاقتصاد ضمن مقاربة تنموية قائمة على الشراكة لا الإعالة؟
تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2024) إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تُقدّر بـ35%، في حين تجاوزت معدلات البطالة 51% على المستوى الوطني، ولامست 80% في قطاع غزة.
هذا التدهور لا يُفهم فقط من خلال مؤشرات السوق، بل يجب قراءته في ضوء القيود المفروضة على حرية التنقل، والاستيراد والتصدير، واستمرار تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي عبر نظام المقاصة وقيود التجارة الخارجية. ينعكس هذا الواقع في فجوة تمويلية متزايدة، وتراجع في قدرة المؤسسات العامة على تقديم الحد الأدنى من الخدمات.
على الصعيد العربي، شهد العقد الأخير تراجعًا حادًا في مستويات التدخل المالي العربي المباشر. وتُظهر مراجعة بيانات صندوق النقد العربي والقمم الاقتصادية العربية انخفاضًا في مساهمات تمويل الموازنة الفلسطينية، وتباطؤًا في تنفيذ مشاريع تنموية كانت مُقترحة منذ سنوات دون أن ترى التنفيذ الفعلي. يُعزى هذا التراجع إلى تحولات الأولويات الإقليمية، وضبابية الرؤية التنموية الفلسطينية الداخلية، فضلاً عن غياب آليات رقابة وتمويل مشتركة تُحاكي نماذج الصناديق الإنمائية الإقليمية.
ومع ذلك، لا تزال هناك فرص حقيقية لإعادة صياغة دور عربي فاعل يتجاوز منطق التدخلات الطارئة إلى نماذج شراكة اقتصادية منتجة. الانخراط العربي يمكن أن يأخذ أشكالاً متعددة، أولها: تحرير التجارة البينية من خلال منح المنتجات الفلسطينية امتيازات جمركية تفضيلية، وإزالة الحواجز غير الجمركية أمام تدفقها إلى الأسواق العربية، ما من شأنه تنشيط القطاعات الإنتاجية وإحداث تأثير مضاعف على التشغيل المحلي. كما أن فتح الأسواق العربية أمام الأيدي العاملة الفلسطينية، سواء في المهن اليدوية مثل البناء والخدمات، أو في القطاعات ذات القيمة المضافة كالبرمجة، الهندسة، والبحث العلمي، من شأنه أن يوفر متنفسًا اقتصاديًا ويعيد توجيه الكفاءات الفلسطينية نحو محيطها العربي بدلًا من تهجيرها إلى أسواق أبعد وأقل استقرارًا.
ثانيًا، يمكن إنشاء صندوق سيادي عربي مشترك يُخصص لتمويل مشاريع تنموية فلسطينية استراتيجية في القطاعات القابلة للتصدير، كالصناعات الزراعية والتكنولوجيا الرقمية، بشروط تمويلية مرنة وإطار حوكمي مشترك. على المدى المتوسط، يُمكن تفعيل أدوات تمويل موجهة إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر تقديم قروض منخفضة التكلفة وضمانات استثمارية، لتعزيز مرونة القطاع الخاص في بيئة مرتفعة المخاطر.
في السياق ذاته، يمكن تفعيل أدوات دعم غير مالية، مثل نقل المعرفة وبناء القدرات المؤسسية عبر شراكات أكاديمية وتدريبية طويلة الأمد، تستهدف رفع الكفاءة الإنتاجية وتعزيز بيئة ريادة الأعمال. كما أن قطاع السياحة، إذا ما أُعيد تأهيله ودمجه في خارطة السياحة العربية، يمكن أن يشكل أحد مصادر النقد الأجنبي غير المستغلة.
في الختام، إن مقاربة دعم الاقتصاد الفلسطيني من منظور عربي تحتاج إلى إعادة تعريف. فالمطلوب ليس ضخ السيولة المؤقتة، بل بناء أدوات استثمار مستدامة تستند إلى تقييم مخاطر دقيق، وأُطر تنفيذ شفافة، وربط التمويل بالتأثير الاقتصادي القابل للقياس. فلسطين لا تشكّل عبئًا اقتصاديًا بالضرورة، بل سوق واعدة إذا ما رُفعت عنها القيود ودُمجت في محيطها الإقليمي من خلال آليات اقتصادية قائمة على الربحية، لا على الشفقة السياسية.