لانهاء عقود الصراع الطويل و المرير ، و ما شهد من مآسي و قتل و دمار و اشاعة للكراهية.
فان الموقف العربي والفلسطيني لانهاء تلك المعاناة التاريخية تحول ايجابا نحو قضية السلام، وقدم تنازلات تاريخية جريئة و غير مسبوقة، مبديا نوايا حسنة وعملية ، توجت بالمبادرة العربية ، التي هي موضع حديثنا اليوم، والتي اكتفت بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، و عاصمتها القدس الشرقية، أي على 22% من فلسطين التاريخية، أي نصف المساحة تقريبا التي كانت مقررة للعرب في قرار التقسيم. بل و ذهبت المبادرة قدما و تحدثت عن العيش بسلام لكافة شعوب المنطقة، واقامة علاقات طبيعية بين الاسرائيلين و العرب .. وبالتالي و حكما، بين اسرائيل و الدول الاسلامية. حتى أن قضية اللاجئين و حق العودة التي استندت الى القرارات الدولية أخضعت بالمبادرة الى مبدأ المفاوضات. بالمقابل فان اسرائيل لم تثمن هذا التحول النوعي العربي و الفلسطيني نحو السلام و قبولها في المنطقة ، بلقابلت ذلك بمواقف متشددة تفضي عمليا الى نسف عملية السلام من حيث المبدأ.
وانها امام الضغط الدولي المتزايد اكتفت بالاقرار بالحق الفلسطيني باقامة دولتهم .. ولكن وفق شروط غير واقعية وغير قابلة للتحقق ، فهم يصرون على الاستيطان بالمضي بمشاريع استيطان جديدة و بتسمين المستوطنات القائمة ، والاستمرار بمصادرة أراضي في الضفة الغربية، يرفضون مبدأ أن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، و يتحدثون عن قدس واحدة موحدة عاصمة لاسرائيل! ويرفضون مبدأ التفاوض على حق العودة، بل و يرفضون الانسحاب من الأغوار ... وهكذا حتى ان الاعتراف بمبدأ حل الدولتين هو في حقيقته ما هو الا ملاذ من شأنه فقط الحفاظ على الوضع القائم، أي على الاحتلال. بل وكل يوم نسمع بشروط تعجيزية جديدة تنم عن ان العقل الصهيوني انما يرفض السلام كمبدأ ويسعى الى الاستحواذ على كامل فلسطين التاريخية، و يرفض عمليا الاعتراف بالشعب الفلسطيني و بحقوقه التاريخية على ترابه الوطني!
(2)
اذاً و بالرغم من التنازلات الجوهرية التاريخية التي قدمها العرب والفلسطينيون سعيا منهم لانجاز عملية السلام، فان الرفض الذي يقابل ذلك انما يراهن على عاملين اثنين :
1 عامل القوة و التفوق العسكري .
2. عامل الدعم الدولي الغربي المنقطع النظير واللامحدود و بأشكاله الكافة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
و عند التدقيق بذلك نجد ، أن الحركة الصهيونية انما تعتمد على عاملين يتسمان تاريخيا بالحركة و عدم الثبات .. فالتفوق بامتلاك القوة العسكرية هو تابع الى متغير متنقل بين الأمم و الشعوب.. فكم من دولة وامبراطورية امتلكت على مد التاريخ القوة والتفوق العسكري الذي لا حدود له والذي مكنها من الهيمنة اقليمياً ودولياً . الا انها ما لبثت هذه الدولة / الامبراطورية ان زالت بزوال قوتها ، ومن الامثلة على ذلك الامبراطوريات الرومانية ، و الفارسية ، والعثمانية، والعربية، والنمساوية، و المانيا المعاصرة، بل ونرى الآن ذاك التراجع"الدراماتيكي"السريع للقوتين الاستعماريتين المعاصرتين اللتان هيمنتا على العالم بريطانيا و فرنسا، وبالمقابل صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي "وسقوط الثانية"والصعود المنتظر للصين و روسيا . وعندنا في القرآن الكريم آية تعبر عن ذلك بقوله تعالى " و تلك الأيام نداولها بين الناس" بل وبالعودة الى مقدمة ابن خلدون "مؤسس علم الاجتماع" على المستوى الانساني فانه يقدم تحليلا تاريخيا وماديا لكيفية صعود و زوال الدو ل والمجتمعات.
اذا فالاعتماد على القوة و التفوق العسكري لا يمثل اطلاقا مستقبلا يضمن للكينونه الاسرائيلية ديمومتها .. واني أذكر بأن العرب يمكن ان يخسروا امام اسرائيل ان استمر الصراع ... عشرات الحروب ، ولكنهم لن ينتهوا ، وذلك لامتدادهم الحضاري و الجغرافي و السكاني... غير القابل للاندثار. و لكن بالمقابل فان اسرائيل يمكن أن تزول ان خسرت حربا واحدة لا غير.
كما أن الدعم الدولي الذي تتمتع به اسرائيل اليوم وتلك الاسلحة الفتاكة التي تتزود بها وتلك المليارات التي تنهال عليها من كل حدب و صوب فهي كذلك من الامور التي لا تتسم بالثبات.
فالدعم الدولي كان جليا و منحازا لحكومة جنوب افريقيا والى روديسيا البيضاء العنصريتينو لعقود طويلة. وفي محطة وعي و صحوة ضمير انساني وانكشاف الحقائق التي كان يخفيها النظامين العنصريين، انتهى هذا الدعم و انقلب السحر على الساحر وانصف العالم باجمعه شعبي جنوب افريقيا و زيمبامبوي المضطهدين ... فنالا حقوقهما التاريخية المشروعة.
في ذات السياق، فاننا نلمس الآن بأن الدعم الدولي لاسرائيل، و جراء سياساتها العنصرية و رفضها لكل القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وانتهاكها لحقوق الانسان الفلسطيني و ممارستها لجرائم الحرب وقتل الأبرياء، و تحويل الاراضي الفلسطينية الى سجن كبير، نلمس ان هذا الدعم بدأ يخفت و تضعف جذوته و بشكل متسارع، فنلاحظ التبدل في المواقف الغربية، نلاحظ ذلك بقرارات المنظمات الدولية التي تدين اسرائيل، بل و بالاعتراف الواسع بحقوق الشعب الفلسطيني، وان أكثره وضوحا اعتراف البرلمانات الاوربية بالدولة الفلسطينية، بل توصيات دول اوربية عديدة بدأتها السويد بالاعتراف الكاملبالدولة الفلسطينية، هذا اضافة الى موقف مئات الأكادميين البريطانيين الذين يقاطعون مراكز البحث الاسرائيلية .. وتلك المقاطعة الاروبية الواضحة لمنتجات المستوطنات الغير الشرعية القائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
اي ان اسرائيل بالخلاصة مكشوفة على حقيقتها اليوم اما العالم .. مما يعني ان هذه التحولات الملموسة في الموقف الدولي سوف تشهد تراكما كبيرا عبر العقدين القادميين. فالعالم لن يحتمل سياسات و ممارسات اسرائيل الى ما لا نهائية . واعتقد ان النتيجة سوف تكون متقاربة مع ما آلت اليه الامور في جنوب افريقيا و زمبابوي، وان ما سوف يسارع في تلك التحولات سعي العرب والفلسطينيين نحو السلام وما عبروا عنه في المبادرة العربية التي تجتمعون اليوم لمناقشتها و البحث في سبل تحقيقها.
(3)
وانني هنا لابد أن أؤشر على عامل ثالث واضح، رغم ان راسمي السياسات في اسرائيل لا يعطونه الاهمية اللازمة، و هو العامل الديموغرافي، ففلسطين التاريخية اليوم، تشتمل على حوالي 7 مليون يهودي، و على عدد مماثل او يقل قليلا من العرب الفلسطينيين، و ان بقاء الحال على ما هو عليه جراء التعنت الاسرائيلي و رفض المبادرة العربية، فان الامور في النهاية تسير نحو دولة ثنائية القومية، وذلك حين يصل المجتمع الدولي لمرحلة لا بد ان يقر بما هو قائم على أرض الواقع، فالعالم لن يحتمل سيطرة مجموعة اثينية على أخرى... خصوصا و ان تلك المجموعة الأخرى ليست أقلية، بل ان معدلات الخصوبة الفلسطينية تزيد عن مثيلتها في اوساط اليهود، وذلك يعني ان الزمن لا يسير بخط يتماشى وفكر التشدد و تطلعات الاستحواذ.
و هذا يعني ان الاصرار على رفض مبدأ السلام و عدم السير قدما بحل الدولتين.. انما يعني أن الامور تسير بالعودة الى ما كانت عليه في السابق.. كيانية واحدة ، بتزايد سكاني عربي فلسطيني... مؤكد .
فاين هي مصلحة أسرائيل برفض المبادرة العربية ؟!
ان اسرائيل تعي هذه الحقيقة ، وبالتأكيد أنها ترى ما نراه، ولكن تمارس رفض الاعتراف بالواقع بفعل سيطرة غريزة الاستحواذ.علماً بأن الغرائز في منطق التاريخ تضر بمن يحملها و بمن تسيطر عليه، فالرغبة بالاستحواذ على كل شئ غريزيا تفضي بفقدان الشئ كله.
(4)
و على جانب آخر و من منبركم هذا فاني أتوجه الى الناشطين و الداعمين لأسرائيل و بالذات في الولايات المتحدة الامريكية ،ولأقول لهم أن دعمكم اللامحدود لاسرائيل والوقوف معها ( على عماها) و تجاوزكم على القانون الدولي و على حقوق الانسان و على قرارات مجلس الامن والجمعية العامة وعلى مجمل توجهات المنظمات الدولية، انما انتم تضرون بها و تدفعون بها نحو الهاوية، فالطفل المدلل عند ابويه و تعويده على الاستحواذ و الحصول على كل ما يريد حتى لو كان بأيد أخرى انما هو في المستقبل "حكما" شخصا انانيا... سوف تقتله انانيته و تدفع به لأن يكون خارج السياق العام لمجتمعه، كبر ذلك المجتمع ام صغر.
واسمحوا لي أن اذكر هنا ان من المعيب على منظمات أمريكية ان تدعم الاستيطان و مشاريعه في الأراضي الفلسطينية، حيث يقول تقرير نشرته هآرتس بتاريخ 8/12/2015 بأن مجموعة من المنظمات الامريكية غير الربحية قد قدمت في الفترة ما بين 2009—2013 مبلغ 265 مليون دولار لدعم الاستيطان و المستوطنين، و بما ان هذه المنظمات كما يشير التقرير هي منظمات غير ربحية و بالتالي معفية من الضرائب، فان هذا يعني ان حكومة الولايات المتحدة تدعم الاستيطان بصورة غير مباشرة رغم مواقفها الرسمية المعلنة منذ عام 67 برفضها للاستيطان و اعتباره غير شرعياً و معيقاً للسلام.
واذا علمنا وفق صحيفة "نيويورك تايمز" بتحقيق أجرته عام 2010 بأن السنوات القليلة الماضية التي سبقت هذا التقرير بأن دعم الاستيطان غير المشروع كان بحدود 200 مليون دولار بمعنى ان الدعم الامريكي للاستيطان يسير بصورة متزايدة رغم ارتفاع نبرة المواقف الأمريكية الرافضة للاستيطان!
بل وان من المعيب أيضا و غير الاخلاقي ان جزء من هذه التبرعات انما يرسل لعائلات و افراد ممن أدينوا بجرائم ارهابية ضد الفلسطينين، ومنها جمعية "حنانو" التابعة لحركة كاخ الارهابية المحظورة في كثير من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، وهي الجمعية الأبرز التي تتلقى دعما سخيا من تلك المنظمات الامريكية غير الحكومية المعفية من الضرائب!
واننا حين نقارن ما يرد في هذه التقارير بالقضايا المرفوعة على مؤسسات مصرفية بحجة أنها تدعم الارهاب نقول، أي عدالة أمريكية وأي مبادئ للثورة الأمريكية هي تلك التي تحكم الولايات المتحدة كمرجعية فكرية و اخلاقية للدولة ، و نتساءل لماذا لا نرى قضايا مشابهة ترفع ضد من يدعم الاستيطان و يمول الارهابيين المتشددين في اسرائيل، و منه الارهابي "عافي بوبر" الذي قتل عام 1995 سبعة عمال فلسطينين والذي يتلقى دعما ماليا منتظما من تلك المنظمات !
واقعة شخصية أود أن أطرحها أمامكم بانني و عبر نافذة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" تلقيت طلبا من اسرة في غزة تعاني شظف العيش والحرمان، تطلب مني مساعدة مالية.. وانني أخشى أن أساعد تلك الاسرة خوفا من أن أتهم بالارهاب، و ترفع ضدي قضية كمساند او داعم او ممول للارهاب امام محاكمكم"العادلة" في الولايات المتحدة الامريكية!
(5)
و بعد، فان المبادرة العربية هي سبيل المجتمع الدولي و كل القوى الخيرة في العالم لانجاز السلام العادل و الشامل، وان أي تأخير بذلك أو مجاملة للحكومة الاسرائيلية المتشددة فانه أمر محفوف بالمخاطر و يهدد السلام الدولي باعتبار ان القضية الفلسطينية وان ضعفت مكانتها مؤقتا في هذه المرحلة بسبب تداعيات الربيع العربي فان هذه القضية سوف تبرز كمفصل و كعامل هام في العلاقات الدولية ... بين أن يتم السلام و بين ان تندلع الحرب مجددا.