اتجهت المحاكم الفلسطينية في أحكامها وعلى اختلاف درجاتها بما يخالف المبادئ الأساسية للعقود عامة، ويخالف نصوص قانون العمل خاصة. إذ اعتبرت أن أي إنهاء لعقد عمل لا يسبقه إشعار للعامل، هو فصل تعسفي
الاقتصادي- المحاميان صهيب الشريف وإيناس النتشة- تقوم العقود على أركان أساسية: الرضا، المحل والسبب، ويُعدّ ركن الرضا؛ أي إتجاه إرادة كِلا طرفي العقد إلى الإلتزام ببنوده للوصول إلى الغاية المبتغاة من التعاقد هو الركن الأهم. وعقد العمل كغيره من العقود يتشكل بالركن الأول لانعقاده وهو التراضي بين رب العمل والعامل. وهو من العقود التي لا يمكن أن يكون أبدياً.
لذلك، حدد له القانون مساراً للإنهاء، سواء اتخذ شكل عقد عمل محدد المدة أو غير محدد المدة.
نظم قانون العمل الفلسطيني الساري رقم (7) لسنة 2000م عقد العمل. وأشار إلى أنه كعقد ينقضي إما بإنتهاء مدته (إذا كان محدد المدة) أو بإرادة كلا طرفيه بإنهاءه (إذا كان غير محدد المدة) بعد إشعار الطرف الآخر.
نصت المادة (39) من قانون العمل الساري وبشكل حصري على الحالات التي يعتبر إنهاء عمل العامل فيها من قبيل الفصل التعسفي، وهي: 1. الانخراط النقابي أو المشاركة في أنشطة نقابية خارج أوقات العمل، أو أثناء العمل إذا كان ذلك بموافقة صاحب العمل. 2. إقدام العامل على طلب ممارسة نيابة تمثيلية عن العمال، أو كونه يمارس هذه النيابة حالياً أو مارسها في الماضي. 3. إقدام العامل على رفع قضية أو مشاركته في إجراءات ضد صاحب العمل بادعاء خرق القانون، وكذلك تقديمه لشكوى أمام الهيئات الإدارية المختصة.
باستقراء نص المادة السابقة، يغدو منطقياً تعويض العامل عن الضرر بإنهاء عقد عمله من قبل صاحب العمل في حال ممارسته لحقوقه القانونية، لما يشكل ذلك من ظلم للعامل. ويؤسس على ذلك، أنه تم تحديد الحالات لما يعتبر فصلاً تعسفياً على سبيل الحصر وضمن نقاط محددة، سواء سبق الإنهاء إشعار للعامل بالإنهاء أم لا.
وبذات الوقت، لا يمكن إغفال نص المادة (46/1) من ذات القانون، والتي أتاحت لكلا طرفي العقد: العامل ورب العمل إنهاء عقد العمل بالإرادة المنفردة، بعد أن يقوم بإشعار الطرف الآخر برغبته بإنهاءه قبل شهر من تاريخ الإنهاء.
الإشكالية
اتجهت المحاكم الفلسطينية في أحكامها وعلى اختلاف درجاتها بما يخالف المبادئ الأساسية للعقود عامة، ويخالف نصوص قانون العمل خاصة. إذ اعتبرت أن أي إنهاء لعقد عمل لا يسبقه إشعار للعامل، هو فصل تعسفي (بالرغم من عدم وجود صلة حقيقية بين الفصل التعسفي واستحقاق البدل المترتب عليه وبين إشعار إنهاء العقد)، ومن ناحية أخرى اعتبرت أن إنهاء عقد العمل مع إشعار ودون أسباب موجبة له يعد فصلاً تعسفياً، في حال لم يكن الإنهاء تطبيقاً للاجراءات القانونية وفقاً للائحة الجزاءات المصادق عليها من وزارة العمل.
تأسيساً على ذلك، تمسكت المحاكم الفلسطينية بحرفية النص القانوني للفقرة الثالثة من المادة (46) من القانون الساري، والتي عرّفت الفصل التعسفي بأنه: يعتبر تعسفياً إنهاء عقد العمل دون وجود أسباب موجبة لذلك ، رغم أن ذلك يعد من قبيل الخلل التشريعي تطبيقاً وتفسيراً، كما ويعد تطبيقاً لأحكام منفردة دون الالتزام بمبادئ التفسير القانوني القويم، والتي تحتم ضرورة تفسير النصوص القانونية مجتمعة باعتبارها مكملة لبعضها البعض.
إن الأخذ بالتفسير الحرّفي لنص المادة سالفة الذكر بفقرتها الثالثة وبمعزل عن الفقرة الأولى من ذات المادة، والتي منحت كلاً من العامل ورب العمل إنهاء العقد بإرادته المنفردة بعد إشعار الطرف الآخر، يقود إلى فهم مغلوط باعتبار أن كل إنهاء لعقد العمل من قبل صاحب العمل هو فصل تعسفي ما لم يثبت خلاف ذلك.
إن أي عقد عمل غير محدد المدة بات يواجه خياراً من ثلاث:
الخيار الأول: استقالة العامل؛ والتي لا يترتب عليها أي إلتزامات على العامل. ذلك أن المحاكم الفلسطينية لم يسبق وأن أصدرت حكم لصالح رب العمل في حال تضرره من إنهاء العامل لعقد العمل.
الخيار الثاني: إنهاء صاحب العمل عقد العامل إنهاءً مشروعاً لإسباب فنية أو خسار مالية أو لسبب من الأسباب المحددة حصراً بموجب المادة (40) من قانون العمل، والتي لصاحب العمل فيها الحق بإنهاء العقد دونما إشعار العامل.
الخيار الثالث: الحكم بالتعويض عن الفصل التعسفي؛ بما أنَّه لم يثبت للمحكمة أي من الحالات التي يمكن من خلالها الحكم وفق الحالة الثانية واعتبار إنهاء العقد إنهاء مشروع/ غير تعسفي. مع ضرورة الإشارة إلى أن المحكمة تنقل عبء الإثبات على صاحب العمل، بما يُشكل مخالفة لأهم قواعد الإثبات الحقوقي وهي "البينة على من أدعى".
الحكم الذي يُعول أن يُبنى عليه
نسلط الضوء على حكم جديد سلك إتجاهاً مختلفاً لم تسلكه من قبل أي من المحاكم الفلسطينية والأردنية على إختلاف درجاتها. وهو الحكم رقم (3034/2019) الصادر عن محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 12/3/2020. والذي أولى أهمية لمبدأ الرضائية في العقود ومبدأ حسن النية بين المتعاقدين. إضافة إلى الإستناد على البحث عن ماهية عقد العمل من حيث طبيعته وخصائصه وإلى القواعد العامة لعقد العمل.
لقد خلص الحكم إلى أنه لا يُتصوّر أن يكون عقد العمل أبدياً أو مؤبداً، وأن النصوص القانونية التي أتاحت لرب العمل والعامل الحق بإنهاء عقد العمل بعد إشعار الطرف الآخر طبقت مبدأ عدم أبدية الالتزام. وأشار الحكم أن الغاية من هذا المبدأ هو أنَّ لا تصبح علاقة العمل نوعاً من الاسترقاق للعامل من جهة، ومن جهة ثانية، إنَّ من حق صاحب العمل الحفاظ على مصالحه الاقتصادية وتنظيم مؤسسته بالطريقة التي يراها مناسبة. واعتبر الحكم أن العلة والحكمة من الإشعار تكمن في أن المشرع أراد أن يتفادى أبدية العلاقة العمالية، إضافة إلى تفادي عنصر المفاجأة بالنسبة للعامل وصاحب العمل كذلك.
وعليه، يُعد محقاً قيام صاحب العمل إنهاء عقد العمل بعد إشعار العامل بما أجازه له القانون، وعدم الالتزام بقيد الإشعار خلال ممارسته هذا الحق لا يرتب في ذمته تعويض العامل عن بدل الفصل التعسفي وإنما تعويض العامل عن بدل الإشعار.
في الختام، نؤكد أن توسع المحاكم في فلسطين في الحكم ببدل الفصل التعسفي قد آثر بشكل كبير على الشركات والمؤسسات في فلسطين، ذلك أن بعض هذه الشركات والمؤسسات (منها المؤسسات التعليمية والصحية أيضاً) تُعاني من عجز مالي بسبب نفقاتها التشغيلية المرتفعة (خصوصاً الرواتب) وتخشى إنهاء عقود موظفيها الذين لا تحتاج إلى خدماتهم؛ لعدم مقدرتها على دفع بدل فصل تعسفي، والذي من الممكن أن يصل إلى أجر 24 شهراً.
هذا، ونشجع وزارتي العمل والاقتصاد على طلب تفسير إرادة المشرع في هذا الشأن من خلال ديوان الفتوى والتشريع لموضوع الفصل التعسفي؛ سيما وأنه لا وجود لمذكرة تفسيرية لقانون العمل النافذ يمكن الرجوع إليها لفهم غاية المشرّع ومقصده، وتحقيق عدالة أوسع بما يشمل صاحب العمل والعامل.