غياب نصوص قانونية فلسطينية لتنظم قواعد العمل المرن، لا يعني عدم الحاجة لتشريع قوانين تنظم العمل المرن، بل يفرض واقع الحال ضرورة الإسراع في إصدارها.
الاقتصادي- المحامية إيناس النتشة- بتوالي الأعوام بدأت تظهر أنظمة واتجاهات متعددة لكيفية تأدية العامل لعمله وكيفية استفادة المنشآت من الموراد البشرية المختلفة. خصوصاً في ظل جائحة كوفيد 19، والتي قيّدت حركة التنقل وحدت منها؛ مما دفع العديد من المنشآت إلى الإتجاه نحو أنظمة عمل مغايرة لما تتبناه سياساتها الداخلية، وهو ما يمكن جمعه تحت مظلة واحدة وهي "نظام العمل المرن".
يُعرف البعض نظام العمل المرن بأنه العمل ضمن جدول زمني متغير، يعرفه الآخرون بأنه العمل ضمن ساعات أقل من الحد الأدنى أي العمل الجزئي، ويُعرفه آخرون بأنه العمل الذي يؤديه العامل لدى أكثر من صاحب عمل ويتقاضى أجره على أساس الساعة، كما يُعرف أيضاً بأنه العمل الذي يتم تأديته عن بعد أو العمل القصير أو المؤقت؛ وعليه يُستنتج من التعريفات المختلفة لنظام العمل المرن بأنه نظام يتخذ أكثر من شكل وحالة وظرف.
عاماً بعد عام، وإذ ثبت لأطراف المنظومة العمالية فعالية وإيجابيات اعتماد نظام العمل المرن، بما يساهم في تحسين التوازن بين مسؤوليات الموظفين العائلية وظروفهم الاجتماعية، إضافة إلى زيادة رضا الموظفين وإنتاجيتهم، كما يُساهم في زيادة مشاركة المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة في سوق العمل، إلى جانب ذلك يخدم هذا النظام من العمل أصحاب العمل في القطاع الخاص من خلال خفض الكلف التشغيلية في حال تشغيلهم أيدي عاملة في مؤسساتهم بنظام العمل المرن.
إضافةً لذلك، تعدّ الأعمال المرنة المبنية على إتمام المهام أو الإنجازات بدلاً من الوقت الذي يُقضى في العمل خياراً فعالاً ومبتكراً في سوق العمل الحديث. إذ يُركز هذا النوع من العقود على تحقيق الأهداف المحددة والنتائج المرجوة بدلاً من مراقبة عدد ساعات العمل، مما يوفر مزيداً من المرونة ويحفز الأفراد على تحقيق أداء أعلى. من خلال تحديد المهام بوضوح وتحديد معايير للإنجاز، يمكن تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية، وتعزيز الإنتاجية والابتكار دون التقيد بالإطار الزمني التقليدي.
تأسياً على ذلك، ذهبت بعض الدول بإتجاهات مختلفة لتنظيم نظام العمل المرن، فأصدرت الأردن نظام العمل المرن رقم (44) لسنة 2024 (الذي يدخل حيز النفاذ بتاريخ 31/8/2024) والذي أتاح إمكانية التحويل بين عقد العمل المرن وغير المرن والعكس ضمن ضوابط معينة.كما وتبنت السعودية كذلك القرار الوزاري رقم (146481) الصادر بتاريخ 4/3/2020م وبدورها أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في العام 2020 مبادرة لتنظيم العمل المرن؛ على إثرها تم إنشاء أول منصة سعودية لتنظيم وتوثيق عقود العمل المرنة، وهي "منصة مرن" .
تكمن أهمية تنظيم العمل المرن بتشريعات مكتوبة لضمان إمكانية إعداد استراتيجيات توظيف وترتيبات تنظيمية واضحة ومحددة تواءم طبيعة نظام العمل المرن، وتحديد الحقوق والواجبات بوضوح لكل من العاملين وأصحاب العمل، بما يقلل من النزاعات والمشاكل المحتملة. إضافة إلى ذلك، يساعد هذا التنظيم الشركات والمؤسسات في تحقيق الامتثال للمعايير الدولية المتعلقة بالعمل المرن، حتى في غياب قوانين محلية تنظم هذا النوع من العمل.(مع الإشارة إلى أنه من المحبذ أن تمنحهذه التشريعات جانباً معقولاً لما يتفق عليه الطرفين).
اتباع نظام العمل المرن يعني:
- تعديل النظام الداخلي للمنشأة بما يتفق و يتواءم مع طبيعة نظام العمل المرن.
- وجود نصوص تنظيمية واضحة للرجوع إليها في حالات إنهاء العمل المرن أو مطالبة العامل لحقوقه العمالية.
- غالبية الدول التي تتبنى نظام العمل المرن بطريقة أو بأخرى وسواء من خلال لجنة حكومية أو منصة إلكترونية، تفرض على العاملين وأصحاب العمل في حالات العمل المرن، توثيق العلاقة العمالية بينهم من خلال توثيق العقود العمالية.
بالنسبة لسوق العمل الفلسطيني، نجد أن الحالة الفلسطينية ليست مختلفة عن غيرها من الدول، وبأن إتباع نظام العمل المرن في فلسطين آخذ بالإزدياد، بالرغم من عدم وجود أي نصوص تنظيمية أو تشريعية أو تعليمات تنظم إتباع هذا النظام، وعدم وجود ما يُلزم أي من المنشآت بتعديل أنظمة عملها وسياساتها الداخلية في حال كانت توظف عاملين بموجب شكل من أشكال عقود العمل المرنة، مما يجعل توثيق عقود العمل المرن أمراً مضاعف الأهمية باعتبارها المرجع الأول الذي ينظم العلاقة العمالية بين العامل وصاحب العمل بشكل تفصيلي والذي سيتم الرجوع إليه في الحالات التي تستوجب ذلك؛ إذ أن قانون العمل الساري لن يكون قادراً وبشكل كامل على تنظيم هذه العلاقة في حال أخذت أحد أشكال الطابع المرن، باعتبار أن الحقوق العمالية التي يتمتع بها العامل في عقد العمل غير المرن/ التقليدي والتي فُرض على أصحاب العمل التقيّد بها بموجب قانون العمل الساري تختلف اختلاف بينًا عن تلك في عقود العمل المرن من حيث: الإجازات وعددها، آليات إنهاء العقد، مكافأة نهاية الخدمة والإصابات والأمراض المهنية وغيرها، بل وأكثر من ذلك، فبعض تشريعات الدول المقارنة جعلت من عقود العمل المرن حكراً لبعض فئات العاملين دون غيرها.
إن الفراغ التشريعي في الحالة الفلسطينية وغياب وجود أي نصوص قانونية تنظم قواعد العمل المرن، وترك هذه المهمة لعقود العمل والأنظمة الداخلية للمؤسسات والشركات لا يعني في أي حال من الأحوال عدم الحاجة لتشريع نصوص قانونية تنظم العمل المرن، بل يفرض واقع الحال ضرورة الإسراع في إصدارها.
مساهمة من شمس صافي، محامية متدربة