الاقتصادي - آفاق البيئة والتنمية - سعد داغر - تراهم يجولون البلاد، يلتقون بالناس، رجالاً ونساء، شيباً وشباباً، يأتون بمشاريع من عناوينها "تعزيز الصمود"، يعقدون الاجتماعات وينظمون ورش العمل، وباتت مقولة "تعزيز الصمود" حاضرة في الحديث وتتردد كثيراً، عبر وسائل الإعلام المحلية وتسمعها عبر المذياع، خلال لقاءات قادة ومنسقي مشاريع تنموية، وشبابية، ونسوية، ونشاطات للطفولة، وحقوق المرأة والطفل وحقوق الحيوانات.
تنظر في عيون المستمعين والمستمعات وتحاول الغوص في تلافيف عقولهم لتعرف كُنهْ التساؤلات العاصفة فيها: ماذا يقصد هؤلاء بتعزيز الصمود؟ كيف يكون شكل هذا الصمود وما هي مقوماته؟ كيف يريد بعض الموظفين الذين يأتون من خلال وظيفتهم وهم الحريصون على العودة قبل انتهاء موعد دوامهم الرسمي، أن يعلموننا الصمود؟
في مسافر يطا الخليل، في برقة رام الله، في بيتا نابلس، في جنين وفي كل مكان نحن هدف للمحتلين، الذين يريدون هذه الأرض خالصة لهم، بلا أهلها الأصليين المتجذرين، أو يريدونها مع بعض منهم، كي لا ينبت الشوك في الأرض، أي ليكونوا عندهم عمالاً في مزارعهم ومصانعهم خدماً لهم.
هؤلاء المستعمرون لهم مراكز تفكير ولهم قيادة، تخطط وترصد الموارد وتنفذ الخطط، ورغم كل خلافاتهم العميقة، إلا أنهم واعون لهدفهم متمسكون بخططهم نحو تحقيق مرادهم بوعي جماعي بالأهداف، رغم خلافاتهم على طريقة الوصول إليها، إذ أن خلافهم الأساسي على طريقة الوصول للأهداف، أما الهدف الرئيس فكلهم متفقون عليه؛ وهو إخراج الفلسطينيين من هذه الأرض.
وبالعودة إلى التاريخ الفلسطيني غير البعيد (قبل عام 1948)، نجد بأنهم بدأوا خطواتهم الاستعمارية الأولى بالزراعة، وقبلها درسوا الموارد المائية في فلسطين، وقبل نحو مئة عام من قيام دولتهم، أرسلوا بعثة لفلسطين لدراسة المكان، وعادت البعثة باستنتاج أساسي يقول: "في فلسطين ما يكفي من الماء لإنشاء الدولة". ورغم أنهم جاءوا لفلسطين أشتاتاً، إلا أنهم عملوا بوعي بروح الجماعة تحت قيادتهم، وأولى تجليات ذلك تمثلت بإنشاء التعاونيات الزراعية، التي أسست لبناء دولة الاحتلال.
ليس الهدف ضرب مثال لما كان عليه المستعمِر وما زال، ولكن لأخذ العبر، لنخلص هنا إلى أن تحقيق الأهداف الكبرى له ركائز أساسية، بدونها يصبح من غير السهل الوصول للنتائج وتحقيق الغايات، ومن هذه الركائز الوعي والاستمرار في رفع الوعي بالهدف لدى الجمهور، من خلال قيادة واعية متماسكة وهذه تمثل الركيزة الثانية، أما الركيزة الثالثة فتقوم على العمل الجماعي. وحين تتوفر هذه الركائز تأتي الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف، إذ أن القيادة الواعية تعرف كيف تصل للموارد وتجندها لخدمة الهدف الأساسي.
الوعي ركيزة الصمود
تعزيز الصمود ليس بتقديم خيمة هنا، وحفنة شعير للمواشي هناك، أو خزان ماء أو شبكة ري أو غيرها. تعزيز الصمود يبدأ بصقل الفكر لخلق حالة وعي جمعي بالهدف الأساسي. وفي سياقنا الفلسطيني يجب أن يكون لنا هدف واحد ووحيد: الحفاظ على الأرض والثبات عليها وتحريرها من محتليها. وحين يكون الوعي عالياً بهذا الهدف، وتتمحور كل أعمالنا حول تحقيقه، مع توفر قيادة تؤمن بهذا الهدف وتعمل لأجله وفقط لأجله، سيبتدع الكل وسائل صموده، التي تحتاج قطعاً لعمل جماعي واع، يحل مكان النزعة الفردية السائدة والتي جرى تكريسها في السنين والعقود الأخيرة، من خلال سياسات عديدة، ركيزتها "التجهيل"، الذي نلمس آثاره في المدارس بمناهجها السقيمة العقيمة وحالة التسيب والتسرب من المدارس، ما خلق جيلاً، في معظمه، غير مكترث بقضايا الوطن، منفصلاً عن القضايا الاجتماعية، رافضاً للعلم والتعليم.
وهنا تبرز أهمية جهد قيادة العمل السياسي في تحصين المجتمع وصقل وعيه بفكر الحرية والتحرر من خلال "التعليم الهادف" أولاً، ونبذ فكر الهزيمة وتكريس التبعية. تعزيز الصمود يحتاج أيضاً إلى ترسيخ قيم النزاهة والشفافية، والعدالة التي تحتاج لمنظومة قانونية قضائية (المُغيبة حالياً بفعل سياسات أفرغت القضاء من جوهره، وكرست الفساد والمزيد منه)، ما أفقد الناس الثقة بقيم العدالة.
حين يرتقي الوعي إلى فكر التحرر ويتحول إلى حالة وعي جمعي، يبدأ تحديد القضايا الأساسية، للعمل عليها داخل المجتمع، بدءاً بالأسرة، ثم المدرسة والجمعية والمؤسسة. وعندها ندرك أن توزيع الشعير لصاحب أغنام هنا وهناك، لن يصنع صموداً، لأن الأغنام ستأكل ذاك الشعير القادم من روسيا وأوكرانيا وتنتهي الكمية، ليجلس صاحب الأغنام في حالة انتظار اليائس، لدعم جديد، بينما ما يصنع الصمود هو الوعي بأهمية وكيفية إنتاج الشعير، وعندها نعي أهمية الأرض بمائها وترابها، ويبادر الناس للعودة للأصول، التي صبغت حياتنا السابقة وكانت تقوم على الإنتاج. والأمر ينسحب على الخيمة، حيث نحتاج لمعرفة كيف نبني بيتاً بموارد الأرض التي نقف عليها ونبنيه بالعمل الجماعي، وليس انتظار خيمة بلاستيكية، تأتينا مصنوعة من بلاد تبعد عنا آلاف الأميال. الصمود يحتاج وعياً للمبادرة بالفعل، وليس الركون والانتظار ثم العمل برد الفعل.
تعزيز الصمود بالإنتاج المتنوع
تحويل الشعار إلى آليات عمل مسألة تحتاج جهداً فكرياً متواصلاً، ويحتاج إلى وقف التشويه في الفكر التنموي، المقصود أحياناً، والعفوي أحياناً أخرى والنابع من غياب الوعي أحياناً كثيرة. فالكثيرون حتى اللحظة، يروجون -على سبيل المثال- للزراعة الأحادية على أنها تعزيز للصمود، ويصل التشويه في الشعار مثلاً، حد القول إن إنشاء مزرعة أفوكادو (زراعة أحادية) يعتبر فعلاً يعزز الصمود ويطلقون عليها "مزرعة نموذجية".. تعزيز صمود من؟ وكيف؟ وما هو النموذج الزراعي التنموي المراد تقديمه بهكذا مشاريع؟ فمثلاً حين يُفرض الحصار/ هل سيعيش المزارع وعائلته على الأفوكادو؟ يأكلونه صباح مساء؟ وهل الأفوكادو يوفر لهم الغذاء على مدار العام؟ بالتأكيد لا. وسيقول قائل: لكن المزارع سيبيع الأفوكادو ويتوفر له المال لشراء الغذاء (وصفة البنك الدولي المزعومة للأمن الغذائي)، وكأن هكذا مشروع يشكل عنوان النجاح والتنمية، بينما هو في جوهر الأمر وصفة للفشل التنموي.
المزرعة النموذجية الحقيقية هي مزرعة الفلاح الفلسطيني الأصيلة المتنوعة، حيث يُنتج الزيت والقمح والقطين والشعير والبصل والبطاطا والبيض والحليب والعسل، هي مزرعة الفلاح الواعي لمعنى الحياة الأصيلة المتوازنة التي تحقق السيادة الغذائية، الفلاح الواعي لمعنى الإنتاج المتواصل المعتمد على الذات بالموارد المحلية، حيث يتجسد في مثل هذا النموذج معنى الصمود، لأن الصمود ممارسة فن العيش بصورة يومية عملية واعية، وليس شعارات نرفعها في ردهات فنادق أو خلال ورش عمل ولقاءات مع أهل الريف، الذين سئموا هذه الشعارات المفرغة من محتواها الحقيقي، ملوا ذاك التكرار حتى أضحت مقولة "تعزيز الصمود" ممجوجة، ولا تؤسس لصناعة الصمود.
سنصبح قادرين على الصمود، عندما نعي أهمية توفير الماء مما تفيض به السماء وقت الشتاء، حتى لا نبقى رهائن مغتصبي الأرض للحصول على رشفة ماء. وسنصبح قادرين على الصمود حين نعي أهمية التغيير في علاقتنا بالغذاء وبإنتاجه وبكيفية إنتاجه. ونكون قادرين على الصمود عندما نحترم الموارد في زمن الوفرة، كما نحترمها وندرك أهميتها في زمن النقص، حين نحترم الماء في وقت الوفرة مثلما نُقَدره في زمن النقص، سنصبح قادرين على الصمود حين نأخذ مواقف جذرية من ممارسات الفساد في مؤسساتنا، وحين نملك القدرة على كنس الفساد والفاسدين من حياتنا.
سنكون قادرين على الصمود عندما نقبل وندرك كيفية إدارة الاختلاف، ونسمو على ذواتنا ونتخلى عن الأنانية المفرطة، التي باتت تصبغ مجتمعنا، وسنصبح قادرين على الصمود حتى حين نعي كيف ندير النفايات في حياتنا. تعزيز الصمود يحتاج تكاتف الناس الواعين بأهميته، والتي هي حتى الآن متفرقة. الصمود حالة وعي شمولية بكل مناحي حياتنا وبسلوكياتنا وبعلاقاتنا بأسس بناء أركان الصمود، حالة وعي تسبق الحديث عنه.