"الخبيزة" تسد رمق القطاع لأشهر
الاقتصادي- أريج- عايدة دلبوش- بعد سبعة أشهر من هجمات المُسيّرات والقصف المتواصل على قطاع غزة، يروي في هذا التحقيق الأخوان باسل ومؤمن خير الدين -وكلاهما صحفيان فلسطينيان- حادثة وقعت أثناء تغطيتهما الصحفية، كادت أن تودي بحياتهما. وعقب هذه الحادثة، اضطرا إلى تقليص تغطيتهما شمال القطاع؛ ليبدأ اتحاد فوربيدن ستوريز (قصص محظورة) وشركاؤه، بمواصلة عملهما، المتمثل في تغطية المجاعة التي تضرب شمال غزة.
لاهثاً، كأنّه هرب من شيء يطارده؛ وبنظرات مترقبة صوب السماء، راح خير الدين يبحث عن المُسيّرة التي كادت أن تودي بحياته. لكن رغم خوفه، بدأ بالتصوير، واصفاً ما حدث للتو: "بينما كنا نصور في بيت لاهيا؛ تحديداً في منطقة سكنة فدعوس، استهدفنا الاحتلال بصاروخي مُسيّرتين".
في وقت متأخر من صباح يوم 18 شباط/فبراير 2024، اجتاز باسل وشقيقه -مؤمن خير الدين- حقول بيت لاهيا المهجورة، التي تقع في المنطقة الزراعية، أقصى شمال قطاع غزة. كان الصحفيان على بعد خمسة كيلومترات فقط من معبر إيرز (بيت حانون)، الذي يعد نقطة العبور الرئيسة إلى إسرائيل، وهو مغلق منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عقب الهجمات التي شنتها حماس على مدن غلاف غزة.
في صباح ذلك اليوم، الذي اكتست سماؤه باللون الرمادي، أرسلت قناة الجزيرة مباشر (القطرية) الأخوين خير الدين؛ لتوثيق نقص الغذاء الذي يعانيه سكان شمال غزة، المعزولون عن بقية القطاع. كان الجيش الإسرائيلي قد أصدر أوامره بإخلاء هذا الجزء من القطاع، في 13 تشرين الأول/أكتوبر. ومنذ ذلك الحين، وجد أكثر من 300 ألف شخص أنفسهم محاصرين في هذه المنطقة، التي عزلها الجيش الإسرائيلي عن بقية غزة. واجه أهالي المنطقة نقصاً حاداً في الطعام؛ ما دفع عائلات كثيرة لجمع وأكل نبتة الخبيزة، التي نجت براعمها من الغارات الجوية على الحقول، فهي آخر وسيلة لديهم للبقاء على قيد الحياة.
يقول خير الدين لفوربيدن ستوريز وصحيفة لوموند الفرنسية: " الموت مصير مَن لا يأكلها". زار خير الدين منطقة شمال غزة، عدة مرات سابقاً. ويضيف الصحفي الفلسطيني: "سبق وأن زرت مع شقيقي مؤمن (المصور الصحفي)، هذه المنطقة ثلاث مرات؛ لإجراء العديد من التقارير، وفي المرة الرابعة، استُهدفنا".
خلال رحلتهم للمنطقة في شباط/فبراير، وثّق خير الدين وشقيقه، الحياة اليومية لعائلة كانت تعيش في "هذه المنطقة الخطيرة". ورغم المخاطر الكبيرة؛ لجأت العائلة إلى جمع الخبيزة، من المنطقة القريبة من الحدود، مدفوعة بالجوع الذي انتصر على خوفها.
قمع التغطية الصحفية
تذكر الصحفي تفاصيل زيارته، التي بدأت بقضائه ساعة مع العائلة، قبل أن يبدأ بالتصوير. يقول خير الدين: "أعددنا الشاي على جمرة صغيرة". بدأ الشقيقان بتصوير بعض المشاهد واللقطات (الرشز)، التي سيستخدمانها في الفيلم؛ منها لقطات لطفل يجمع الخبيزة وسط الأنقاض. وحرص الأخوان على توجيه الكاميرا بعيداً عن الحدود؛ لتجنب إثارة شكوك الجنود المتمركزين عند المعبر.
يقول خير الدين: "بدأنا التصوير، لكن بعد ثماني ثوانٍ، استهدفتنا مُسيّرة بصاروخ، ونحمد الله أنه لم ينفجر".
وبينما يختبئ الصحفيان خلف بقايا جدار خرساني، تمّ استهدافهما بصاروخ ثانٍ، بعد مرور دقيقة واحدة من الأول. ركض الأخوان مسافة ثلاثة كيلومترات من دون توقف، ثم قررا خلع سترتيهما الصحفية، وإخفاءهما تحت ملابسهما.
من خلال تحليل أجرته وكالة الأبحاث الصوتية Earshot (إيرشوت)، لمقطع الفيديو المصور الذي شاركه باسل خير الدين، خلص اتحاد "فوربيدن ستوريز" (قصص محظورة) وشركاؤه إلى أن المُسيّرة التي "كانت تحلق فوق كاميرا الصحفيين" من نوع هيرون، التي تصنعها شركة الأسلحة الإسرائيلية Israel Aerospace Industries. ومع ذلك؛ فمن غير الممكن حسم ما إذا كان الهجوم قد صدر من هذه المُسيّرة.
ورغم سلامتهما الجسدية، تأثر الشقيقان نفسياً؛ فقد وقع هذا الحادث بعد أقل من شهرين من تدمير منزل عائلتهما بالكامل في بيت لاهيا، في 28 كانون الأول/ديسمبر 2023. وعلى إثره، فقد الأخوان 23 فرداً من العائلة؛ من بينهم شقيقهما أحمد، الذي كان صحفياً هو الآخر.
ورداً على أسئلة فوربيدن ستوريز، أفاد الجيش الإسرائيلي بأنه قصف في 18 شباط/فبراير، بنية تحتية عسكرية تابعة لحماس، تقع على بعد نحو 330 متراً، من مكان وجود الصحفيين. (تصنف كل من أميركا والاتحاد الأوروبي حماس منظمة "إرهابية")
ورغم صعوبة تحديد ما إذا كانا مستهدفين أم لا؛ قرر باسل ومؤمن -بعد الهجوم الذي تعرضا له في 18 شباط/فبراير 2024- تقليل نشاطهما بشكل كبير، ولم يقبلا إلا "عشرة في المئة فقط"، من مهام التغطيات الصحفية، التي كانا يقومان بها "قبل هذه الحادثة". كما أصبحا أيضاً أكثر حذراً بشأن ارتداء سترتيهما الصحفية؛ حيث يلبسانها عند بدء التصوير فقط.
يقول خير الدين: "من المفترض أن تحمينا هذه السترات، إلا أنها كادت أن تتسبب في مقتلنا، وهو ما حدث لكثير من زملائنا".
بعد مرور أربعة أشهر على الهجوم، أصبح الوضع الإنساني في غزة مأساوياً. قرر اتحاد فوربيدن ستوريز (قصص محظورة) وشركاؤه مواصلة العمل على تحقيق الأخوين باسل ومؤمن خير الدين؛ لتوثيق نقص الغذاء الذي يعانيه سكان شمال غزة، ورصد "الحيل" التي يلجؤون إليها للبقاء على قيد الحياة.
"الوضع مأساوي"
يقع شمال قطاع غزة تحت الحصار منذ ثمانية أشهر، في عزلة عن بقية القطاع، ما جعل سكانه يعانون المجاعة. في الثالث من أيّار/مايو 2024، أكدت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، سيندي ماكين وقوع المجاعة شمال غزة: "هناك مجاعة شاملة، وهي تتجه من شمال القطاع نحو جنوبه".
ووفق منظمة أوكسفام غير الحكومية، يعيش سكان الشمال منذ كانون الثاني/يناير 2024، بمعدل 245 سعراً حرارياً في اليوم؛ أي أقل بـ 12 في المئة من الاستهلاك اليومي المُوصى به، المقدر بألفين ومئة سعر حراري.
علاوة على ذلك، فإن النظام الصحي في شمال غزة يشهد وضعاً بائساً؛ ففي 21 أيار/مايو 2024، هاجمت القوات الإسرائيلية مستشفى العودة -أحد أكبر المجمعات الطبية في المنطقة- الذي كان متضرراً بالفعل. وبعد مرور يومين فقط، تعرض مجمع كمال عدوان الطبي -الذي يضم المستشفى الوحيد للأطفال شمال القطاع- للقصف أيضاً.
وبالإضافة إلى الحرب، فإن المجاعة تسببت أيضاً في موت كثيرين. فوفق تصريح للطبيب حسام أبو صفية، مدير مستشفى الأطفال بمجمع كمال عدوان الطبي -أدلى به لـ"هيومن رايتس ووتش"، في نيسان/أبريل 2024- فإن مضاعفات الجوع تسبّبت في وفاة 26 طفلاً. يواجه تسعة أطفال من كل عشرة انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وفق تقرير صادر عن اليونيسف، يستند إلى بيانات جُمعت في الفترة بين كانون الأول/ديسمبر 2023 ونيسان/أبريل 2024. فيما تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى تفشي مجموعة من الأمراض، مثل التهاب الكبد الوبائي أ.
وفي نيسان/أبريل 2024، قيمت "شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة"، التي أسستها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وضع الأمن الغذائي شمال غزة، ضمن المرحلة الخامسة، وهي أعلى مرحلة على سلم مراحل انعدام الأمن الغذائي.
ومع ذلك، راجعت لجنة مراجعة المجاعة -وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة- هذه النتيجة مؤخراً، وذكرت في 17 حزيران/يونيو 2024، أنها لا تستطيع تصنيف غزة منطقة تعيش تحت وطأة "المجاعة"؛ بسبب غياب البيانات الكافية منذ بداية نيسان/أبريل، لعدم القدرة على الوصول إلى الميدان. لكنّ مجلس بحوث اللاجئين أشار إلى أن هذه النتيجة لا تقلل من حقيقة استمرار المعاناة الإنسانية في غزة، مطالباً في الوقت ذاته جميع الجهات الفاعلة بالتحرك العاجل وعدم الانتظار حتى يتمّ تصنيف غزة بأنها منطقة تتعرض للمجاعة.
مجرد إطعام النفس هو تحدٍ يومي
الصحفي أحمد أبو قمر، الذي اضطر مع عائلته إلى مغادرة منزلهم بمخيم جباليا للاجئين، إلى جانب أكثر من 150 ألف شخص، بعد وقوع الاجتياح البري للجيش الإسرائيلي في 12 أيار/مايو 2024، يقول إن الوضع مأساوي شمال قطاع غزة، مضيفاً: "ليس لدينا مياه صالحة للشرب (...)، أفضل أيامنا عندما يتاح لنا رغيف من الخبز مع قليل من الزعتر، هذه بمثابة وجبة دسمة".
بالقرب من أماكن توزيع المواد الغذائية، التي تشهد مجازر متكررة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل جنوني، فإذا عثر السكان، شمال القطاع، على الدقيق، يجدونه يُباع بأسعار باهظة؛ إذ يتراوح سعر 25 كيلوغراماً من الدقيق ما بين ألف إلى ألف و500 شيكل (من 268 إلى 403 دولارات أميركية)؛ أي ما يعادل أكثر من ضعف سعره المعتاد بـ 40 مرة. هذا الوضع دفع بعض السكان إلى أكل علف الحيوانات.
ولم يعد بوسع آخرين سوى جمع النباتات التي تنمو تحت الأنقاض، والاعتماد عليها -بشكل مؤقت- مصدراً للطعام. يقول المصور الصحفي المقيم شمال غزة، سعيد الكيلاني، لـ"فوربيدن ستوريز": "أيّ نبات تمنحنا الأرض إياه، نحوله إلى طعام".
طعام على حافة الموت
عبر حسابه على إنستغرام، الذي يتابعه نحو ثلاثة ملايين و400 ألف شخص، يقول الصحفي الشاب عبود بطاح، في أحد فيديوهاته: "لقد ساندت الخبيزة القضية الفلسطينية أكثر من العديد من الدول".
الخبيزة نبات بري، ينمو بعد هطول بواكير الأمطار الشتوية، ويمكن العثور عليه في الحقول، وزوايا الشوارع. لقد كان هذا النبات موضع تقدير قبل الحرب لخصائصه الغذائية، ولطعمه المماثل للسبانخ. وعادة ما تُطهى الخبيزة في الحساء، ولطالما أنقذت أسراً كثيرة في غزة من خطر المجاعة.
ولكن حتى جمع أوراق النبات أصبح خطراً؛ تتذكر نيفين عنان مصطفى -أم تبلغ من العمر 27 عاماً وحامل في شهرها السابع بطفلها الخامس- يوم أن خرج زوجها لإحضار أوراق الخبيزة، بنهاية شهر آذار/مارس، الموافق منتصف شهر رمضان.
تقول مصطفى: "بينما كنت أعد الطعام للأطفال، وردني خبر مقتل زوجي، بعد أن أطلقت طائرة أباتشي، تابعة للجيش الإسرائيلي النار على كل من كان في المكان"؛ ما خلف قتيلاً ونحو ثلاثين جريحاً، وفق مصطفى.
ورغم الخطر والحزن، عادت الأم الشابة إلى الحقول في اليوم التالي، على أمل العثور على شيء تطعم به أطفالها، تقول إنها قامت بذلك لأنها لم يكن لديها وقت للحداد، رغم حزنها الشديد.
دمرت العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي وجرافاته معظم الأراضي الزراعية في بيت لاهيا، التي تقع قبل الجدار الأمني الإسرائيلي شمال قطاع غزة. ورغم أن هناك بعض الأراضي الزراعية القليلة، التي نجت من القصف، فإنه ليس بمقدور المزارعين الوصول إليها؛ لأنها ما زالت في مرمى الاستهداف الممنهج للجيش الإسرائيلي. وبعدما كانت تشتهر أراضي بيت لاهيا الخصبة بزراعة الفراولة، في موسم زراعة "الذهب الأحمر"، أضحت هذه الأراضي جدباء.
ومنذ أن جفت أمطار الشتاء، لم يعد بمقدور سكان غزة الاعتماد على النباتات البرية، للبقاء على قيد الحياة. يقول المصور الصحفي كيلاني: "لقد فقدنا كل شيء".
***
هذا التحقيق جزء من "مشروع غزة"، الذي نظمته "فوربيدن ستوريز" وشاركت فيه "أريج" مع 50 صحفياً وصحفية يمثلون 13 مؤسسة.