اليوم التالي ربما كان بالأمس.. وإذا بدأنا اليوم فلا بأس
AHC: 0.80(%)   AIB: 1.09(%)   AIG: 0.17(%)   AMLAK: 5.00(%)   APC: 7.25(%)   APIC: 2.27(%)   AQARIYA: 0.78(%)   ARAB: 0.81(%)   ARKAAN: 1.31(%)   AZIZA: 2.84(%)   BJP: 2.80(%)   BOP: 1.46(2.01%)   BPC: 3.74(%)   GMC: 0.76(%)   GUI: 2.00(%)   ISBK: 1.12(%)   ISH: 0.98(%)   JCC: 1.53( %)   JPH: 3.58( %)   JREI: 0.28(%)   LADAEN: 2.50( %)   MIC: 2.47(%)   NAPCO: 0.95( %)   NCI: 1.75(%)   NIC: 3.00(0.00%)   NSC: 2.95(%)   OOREDOO: 0.78(1.27%)   PADICO: 1.01(0.00%)   PALAQAR: 0.42(%)   PALTEL: 3.93(0.26%)   PEC: 2.84(%)   PIBC: 1.09(%)   PICO: 3.50(%)   PID: 1.91(0.53%)   PIIC: 1.72(%)   PRICO: 0.30(%)   PSE: 3.00(%)   QUDS: 1.06(1.85%)   RSR: 4.50(%)   SAFABANK: 0.68(%)   SANAD: 2.20(%)   TIC: 2.98(%)   TNB: 1.20(%)   TPIC: 1.94(%)   TRUST: 2.85(%)   UCI: 0.38(%)   VOIC: 5.29(%)   WASSEL: 1.00(0.00%)  
9:09 صباحاً 23 حزيران 2024

اليوم التالي ربما كان بالأمس.. وإذا بدأنا اليوم فلا بأس

الاقتصادي- سعد داغر- آفاق البيئة والتنمية- في قطاع غزة مسحوا التاريخ في حربهم على شعبنا هناك، وسرقوا ويسرقون التراث الفلسطيني، بدءاً من طبق "المجدرة"، وأدوات الزراعة القديمة، ومعاصر زيت الزيتون التاريخية، مروراً بالثوب الفلسطيني، والأغنية، والزعتر، والعكوب، والحكاية.

يُزَوِّرون التاريخ ويسرقون ما شاء لهم أن يسرقوا في سعيهم للبرهنة وإثبات أن هذه البقعة من الكرة الأرضية وهبهم إياها ربهم خالصة لهم، لذلك يُسمح لهم بارتكاب مجازر بشرية ضد الفلسطينيين لم يرَ التاريخ المعاصر مثل بشاعتها. ومنذ بداية العدوان الدموي، خرج علينا قادة الاحتلال وأطراف غربية بمفهوم "اليوم التالي".

اليوم التالي.. فلسطين بلا فلسطينيين

"اليوم التالي"، مصطلح كثر الحديث عنه سياسياً، وارتبط بالعدوان المستمر على شعبنا الفلسطيني في غزة، ومصطلح ردده ويردده قادة العدوان حول مصير قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، التي -وإن توقفت- ستبقى مستمرة بأشكال معهودة ممتدة منذ بدء الانتداب البريطاني حتى نشوء دولة الاحتلال، وأخرى سيبتدعها العقل الاستعماري، للتضييق علينا وقهرنا وطردنا من الأرض أو قتلنا، لاستكمال المشروع الاستيطاني التوسعي، بأشكال مختلفة، وصولا إلى فرض السيطرة على المنطقة ونهب خيراتها النفطية المعروفة والمعدنية التي تكتشف حديثاً، ولكونها موقعاً استراتيجياً في الجغرافيا السياسية العالمية، كمفتاح يتم من خلاله التحكم والسيطرة على مناطق واسعة من العالم.

التحضيرات لليوم التالي جارية على قدم وساق، من طرف دولة الاحتلال، بمشاركة أميركية في التخطيط. ولعل هذه الخطط قديمة وتم إعادة إخراجها ووضعها على طاولة البحث والتنفيذ، مع بدء العدوان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023؛ فهم يحاولون عبثاً محو صورة الثبات والتجذر والصمود الفلسطيني من خلال إحلال صورة جريمتهم وبطشهم. وهذه الخطط تنفذ بدقة، من خلال التدمير الشامل والقتل الجماعي المنظم.

دولة الاحتلال دائمة التخطيط لمواصلة احتلالها، من خلال الحروب والتزوير وسرقة تراثنا وتاريخنا، لتصنع منها تاريخاً لها. وهي مستمرة في تحضير العدة لتنفيذ تلك الخطط، إلى أن جاءت غزة لتخرج عن ثقافة القطيع، "فخربشت" وخربت خططها، لذلك وجب القضاء على فكرة الخروج عن ثقافة القطيع، وإعطاء درس لكل من يريد الخروج عن هذه الطبيعة. ومع بدء الحرب أخرج المحتلون مفهوم "اليوم التالي".

يخطط المحتل لما بعد هذا الحاضر وبعد المستقبل القريب، بعيداً عن الحديث في المشاعر الإنسانية التي لا تؤخذ في الحسبان بالمطلق في عالم السياسة. وما يجري في قطاع غزة ربما سيتبعه ما هو أفظع في مدن ومخيمات وأرياف الضفة الغربية، وما يعنيه ذلك من ملحمة حقيقية قادمة قد نشهدها، وبخاصة مع احتفال وزير "الأمن القومي" الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بتوزيع البندقية القتالية رقم مئة ألف على المستوطنين.

هذه البنادق ستفعل فعلها في الدم الفلسطيني، والمقياس الحقيقي لما هو قادم هي التصريحات وكل ما يصدر عن أمثال بن غفير وبتسلئيل سموتريتش (وزير المالية الإسرائيلي)، لأنها التعبير الحقيقي لما تخطط له دولة الاحتلال في خطة "اليوم التالي"، وغير ذلك من كلام دولة الاحتلال وحلفائها ليس أكثر من مسحات تجميلية، وخشبة إنقاذ لبعض القيادات الفلسطينية والعربية المتساوقة مع مشروعهم، يتعلقون بها لتبرير تساوقهم، بما في ذلك الحديث الأميركي المتجدد عن دولة فلسطينية على الأرضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967، في وقت تقف فيه الولايات المتحدة سداً منيعاً أمام مجرد قبول فلسطين كدولة في الأمم المتحدة.

إذن، اليوم التالي بالنسبة للمحتل هو فلسطين بلا فلسطينيين، أو بالقليل منهم، ليكونوا عمالاً في مزارع الإسرائيليين ومصانعهم. بمعنى، هي خطط استعمارية مغلفة بغلاف ديني تلمودي لتحقيق هذا الهدف الاستعماري الاستراتيجي.

ماذا نفعل نحن الفلسطينيين؟

مواجهة هذه الخطط تتطلب إعداد العدة على كل الأصعدة، والانتقال إلى التفكير الاستراتيجي والتخطيط وعدم انتظار الفعل الاستعماري للقيام برد فعل من طرفنا. وهي تحتاج إلى تحصين شعبي مدروس، بعد أن ضاع هذا التحصين منذ مؤتمر مدريد عام 1991 في دهاليز اتفاق أوسلو، المتسبب الحقيقي لحرب التدمير الشامل والمجازر الحالية في قطاع غزة، ومجزرة الأرض في الضفة الغربية من خلال المستوطنات الإسرائيلية، وما تلا أوسلو من حفلات التفاهم على تقسيم الكعكة في واشنطن وبعدها. التحضير لليوم التالي يتطلب منا رفع الوعي الوطني، ومنع تسلل وكلاء الاحتلال إلى الصفوف القيادية لشعبنا، كما حصل منذ بداية الاحتلال البريطاني قبل عام 1948، واستمر هذا التسلل عبر تاريخنا.

مواجهة هذه الخطط تستدعي كنس سذاجة التفكير عند الغالبية منا، من خلال تحصين عامة الشعب وطنياً بعدم قبول فكرة حكم الغير لنا، وتستوجب أخذ زمام المبادرة، وليس انتظار الفعل للقيام بعده برد الفعل. يتطلب منا تشكيل "فرق الفكر"، التي تمارس التفكير الاستراتيجي ورسم الخطط والسير لتحقيق تلك الخطط على كل الأصعدة وفي كل الأبعاد، من أجل بناء المناعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والعلمية.

فنحن وفي ظل الواقع الذي نعيش فقدنا أسس بناء المناعة الشعبية، بدءاً بعملية "تسطيح العقول" التي تجري مع الجيل الناشئ من خلال مناهج تعليم وتدريس باهتة، لا تبني الإنسان الفلسطيني، بل تمسح ذاكرته التاريخية والوطنية وتُسَطِّح عقله. مناهج لا تعمق الارتباط بالأرض والدفاع عنها. مناهج وعملية تدريسية لا تبني قيماً عند الجيل الجديد، بل تفرغه من القيم الوطنية وأسس المواطنة وحب الأرض التي نعيش معها وعليها. مناهج لا ترفع قيمة العمل الانتاجي والزراعي والحياة الفلاحية، التي هي أساس التمسك بالأرض والوطن وأساس الصمود والمقاومة.

"كيف نعمل معا"

بناء الإنسان الواعي يبدأ من العمل على بناء فكر تعليمي مختلف، يصنع قيماً وعِلماً قبل كل شيء، تكون المناهج قاعدته الأساسية والمعلم قائده، من خلال عملية تعليمية تبني القيم العليا في المجتمع، القائمة على الصدق والإخلاص في العمل والانتماء للمكان والأرض، والتضحية للجماعة وحماية الفرد، ونبذ السفهاء وعشق الوطن ورفع قيمة الفكر والمفكر.

وهذا يتحقق حين ينخرط المثقفون الجذريون الواعون في الفعل الاجتماعي والسياسي ويضحون بوقتهم. هؤلاء الجذريون عليهم أخذ المبادرة، والإمساك بمفاصل العمل الاجتماعي والسياسي والإعلامي والثقافي، بدءاً من عريف صف في المدرسة، مروراً بلجنة عمالية في أصغر مؤسسة وبنقابة عمال أو عاملين، بقيادة لجنة مخيم أو مجلس قروي أو بلدي، وبرئيس مخفر وشرطي ينظم السير ويراقب تطبيق القوانين، مدير أو مديرة روضة للأطفال وصولاً لعميد كلية ورئيس جامعة. السفهاء يتمتعون بجرأة حد الوقاحة، في وقت نجد المثقفين الواعين يتمسكون بالكياسة حد الجبن أحياناً، لذلك وصلنا إلى ما نحن عليه من تدهورٍ قِيَميٍ وتراجعٍ وطني يتجلى في سوء المُواطَنة.

أخذ المبادرة لن يتحقق إلا من خلال تشكيل "فرق التفكير الشعبي الاستراتيجي"، ومن خلال التخلص من الفعل القائم على عقلية "على البركة"، التي قادت إلى حالة "سارحة والرب راعيها"، وجعلت الكثيرين يقبلون التعايش والعمل مع المحتل. عقلية قبلت باستشراء الفساد وتعايشت معه، إذ لا يجوز أن ننتقد الفساد ونركن إلى هذا النقد ونكتفي، لنعطي أنفسنا الشعور بأننا "قمنا بما علينا القيام به"، فالفساد -على سبيل المثال- ينتشر حين يغيب "الصلاح"، والصلاح قيمة تنميها الأسرة وروضة الأطفال والمدرسة والشركة والمؤسسة والحزب السياسي والمؤسسة الرسمية، فمن علامات الفساد وأيضاً التقهقر القِيَمي، أن تسمح لمن لا يحمل شهادة جامعية أو لم ينه التعليم المدرسي، أن يقود أصحاب الشهادات العلمية، وأن يكون مسؤولاً عنهم في موقع العمل.

بالنسبة لنا "اليوم التالي" يعني أننا بحاجة أن "نبدأ بالأمس" بفعل التحصين المجتمعي والاستعداد على كل مستوى، ولكن أن نبدأ اليوم فلا بأس، إننا بحاجة أن نفكر في مدارسنا، وكيف يكون التعليم فيها، في مؤسساتنا وأحزابنا كيف تكون القيادة فيها، أن نفكر في كيفية مواجهة الخطط الحالية والمستقبلية للاحتلال، أن نفكر في شوارعنا وكيف يكون السلوك فيها، فالقيم تظهر في كيفية تعاملنا مع الشارع، كتعبير عن تعاملنا مع بعضنا ومع الملكية العامة وتعبير عن انتماءٍ لوطن وتجليات عيش المُواطَنة، أن نفكر في "كيف نعمل معاً"، بعد أن فعلت العقلية الفردية فينا فعلها، أن نفكر في كيف نوفر الغذاء المعتمد على الذات، دون الحاجة لقنوات الإمداد الغذائي من الخارج والأجنبي، أو على الأقل تقليل الاعتماد عليه للحد الأدنى في المرحلة الحالية.

أن نفكر في الماء وكيف نوفره باستمرار لنشرب ونصنع ونزرع، أن نفكر في الأم وكيف تُبنى الأم المتعلمة المثقفة، لأنها أساس بناء الجيل الجديد الواعي وحامل القيم التي نريد.

"الفكر التحرري الاستراتيجي" هو المفتاح

كثيرون ما زالوا يعتقدون أن الأمور بعد توقف الحرب الدموية ستعود إلى سابق عهدها (الحرب التي لن تتوقف قريباً وستستمر بأشكالها المختلفة المتواصلة)، وتجد هذا الاعتقاد عند الكثير من العمال الذين كانوا يعملون في الورش والمصانع الإسرائيلية، فهم يأملون في "اليوم التالي" أن يعودوا للعمل في تلك الورش.

القليل منهم بدأ يعود لأرضه ويزرعها، ليس كمنهج حياة، بل كوسيلة تكيف مع الوضع الحالي، لحين عودة الأمور "لسابق عهدها"، وليس هذا الاعتقاد منبعه سوى غياب "المَنَعَة" الوطنية وغياب الفكر التحرري الاستراتيجي، وغياب التفكير فلسطينياً في كيف سيكون "اليوم التالي". وإذا حصل وعاد للعمل في ورش المحتل، سيترك أرضه من جديد، كأننا لم نتعلم الدرس، وهذا سببه السياسات الزراعية الرسمية والأهلية التي تنفذها المؤسسات، فهي لم تصل إلى حالة تجعل المزارع والفلاح مقتنعاً بالجدوى الوطنية والقيمة الروحية والبعد الاقتصادي للعمل في الأرض.

من يسير في شوارع الضفة الغربية يدرك حجم التغيير الحاصل والقادم، فالشوارع جرى تغييرها من قِبل دولة الاحتلال بشكل جوهري، وتم حشرنا كفلسطينيين في شوارع فرعية ضيقة بأزمات سير خانقة، بدأنا قبولها كشوارع دائمة لنا. فنحن نجيد سرعة التأقلم مع كل ما يُفرض علينا، وهو ليس صموداً، بل قبولاً بما يفرضه المحتل وتكيفاً مع سياساته.

الصمود يتطلب فعلاً نضالياً، ومواجهة كل ما يفرضه الاحتلال على حياتنا، بدءاً باستعادة الطرق ورفض الطرق البديلة البائسة، مروراً بتحرير الجبال من المستوطنين رعاة الأغنام، إذ أن راعياً استعمارياً واحداً يطرد مئات الفلاحين من أرضهم ويسيطر على مئات الدونمات، وحارس مستوطنة واحد يغلق مكب نفايات لعدة مدن فلسطينية، ليخلق أزمة نفايات لنا كفلسطينيين في كل مكان.

"اليوم التالي" يتطلب منا الانتقال إلى حالة مختلفة تماماً، يتطلب العمل على الصعيد الاجتماعي، عندما يتصدر المشهد الاجتماعي والعمل مع الناس أصحاب الفكر والمثقفين، وينخرطون بكل هِمة في العمل من أجل بناء مجتمع رصين، ويضحون بوقتهم، فيغادرون المكتب والبيت ويقدمون النماذج داخل مجتمعهم وبين الأهالي.

اليوم التالي يتطلب العمل على التعليم الشعبي الذي يبني القيم والثقافة ثم العلم، ويتطلب الانخراط المبني على مبادئ وعقيدة في العمل الفلاحي النشط والمتواصل وإنتاج الغذاء، يتطلب العمل الشعبي المتكاتف لنهضة الريف بأهله، كخزان لمقومات الصمود. العناية بالأرض والزراعة تتطلب نظرة مختلفة عما هو سائد، وكما ورد في مقال سابق عن التحول من العقلية القاصرة حول "الجدوى الاقتصادية للمحصول" إلى اقتصاد الحقل الشامل، لنجعل الفلاح ينظر إلى كل الإمكانيات للإنتاج المتنوع من الأرض، ما يجعله يرى كل شبرٍ فيها مكاناً لإنتاج الغذاء، وهذا التوجه أيضاً يحتاج إلى "فريق فكر" يبني خططاً وينطلق بها إلى الفلاحين في الأرياف، بعيداً عن ملوثات الفكر الزراعي الأحادي الذي يرسخ الاعتماد على الآخرين بمن فيهم المحتلون، من خلال مدخلات الإنتاج التي تأتي منهم على شكل سموم زراعية وبذور عقيمة. أخذ المبادرة لترسيخ التحرر القادم يحتاج إلى فرق الفكر في مختلف المجالات، أولها التعليم مروراً بالإعلام، ومؤسسات الدين، والسياسة، وغيرها.. وانتهاء بالفلاحة والزراعة المعتمدة على الذات.

مرة أخرى، التحضير لليوم التالي بدأ بالأمس، وإذا بدأنا اليوم فلا بأس، ولا بد أن نبدأ إن أردنا للوطن وللإنسان تحرراً.

Loading...