يكشف التحقيق عن أن إدخال الذهب إلى الضفة الغربية يتمّ عن طريق التهريب فقط، بواسطة تجار ونافذين ودبلوماسيين، وسط تقاعس السلطة الفلسطينية عن إقرار آليات رسمية لاستيراده على غرار السلع الأخرى، ما جعل الذهب سلعة احتكارية -بيد المهربين والتجار- تباع للمستهلك بأسعار أعلى من السعر العالمي.
الاقتصادي - أريج - أنصار اطميزه - تخفي عمليات إدخال أطنان من الذهب سنوياً إلى الضفة الغربية، الكثير من الأسرار، خصوصاً أنها تعتمد على طريقة واحدة: التهريب. وأصبحت لهذا التهريب مسارات تجعله شبه قانوني، على مرأى السلطة الفلسطينية. ويتحكم المهرّبون بأسعار الذهب؛ إذ يباع غالباً بأسعار أعلى من السوق العالمية.
حالة الريبة هذه، كانت محركاً للتحقيق في طرق تهريب المعدن الأصفر، ومنحه "الشرعية" من قبل وزارة الاقتصاد الفلسطينية قبل طرحه في الأسواق. وليس بمقدور أيّ شخص ممارسة التهريب، إلا إذا كان تحت عباءة "نافذين"، أو من "الدبلوماسيين" أو "كبار الشخصيات"، أو التجار، وفق ما توصل إليه التحقيق استناداً إلى شهادات تجار، ومسؤولين حاليين وسابقين، ومحاضر جلسات محاكم أردنية، وبيانات صحفية.
"السلطة" تعترف بالتهريب
أقرت مديرية المعادن الثمينة التابعة لوزارة الاقتصاد الفلسطينية، بأن الذهب يدخل إلى الضفة الغربية بطريقة "غير رسمية"، وفق وصف هيثم سماعنة، مدير الرقابة والتفتيش في المديرية. وأرجع السبب إلى "الخلاف مع إسرائيل في النظرة إلى الذهب ما بين السلعة والنقد، وعدم وجود بنك مركزي (فلسطيني) يمكن من خلاله استيراد الذهب".
ولم يتردد المدير السابق لمديرية المعادن الثمينة، يعقوب شاهين، في تأكيد أن السلطة الفلسطينية دمغت أكثر من 180 طناً من الذهب (منذ عام 1998) ولم يدخل منه غرام واحد بطريقة رسمية، ووفق السلطة، فإن سبائك الذهب تُعدّ نقداً وليس سلعة، ومُعفاة من ضريبة القيمة المضافة، بموجب قرار مجلس الوزراء عام 1999. وعلى النقيض، تتعامل إسرائيل مع السبائك على أنها سلعة (بموجب اتفاق باريس الاقتصادي)، وتفرض عليها ضريبة 17 بالمئة، وفق شاهين.
وعن السبب في هذه الحالة، يقول شاهين -الذي عمل في المديرية منذ عام 1998 حتى بلوغه التقاعد في عام 2020- إنه في حال دخول الذهب بطرق رسمية فسيفرض الاحتلال الإسرائيلي الضريبة عليه، ويعيدها للسلطة (الفلسطينية) عبر نظام المقاصة الشهرية؛ لكنّ تقاعس وزارة المالية بتحويل "الرديات" الضريبية للتجار، جعلهم يلجأون إلى التهريب.
كيف يتمّ التهريب؟
يتمّ التهريب عبر نقطتين: جسر الملك حسين (الحدود الأردنية)، ومطار "بن غوريون" الذي تديره إسرائيل، بحسب ما أكده عاملون في قطاع الذهب، ومنهم طارق عبد الله (اسم مستعار).
يوضح عبد الله أن "الذهب يدخل عبر المطار بدعم من أطراف إسرائيلية، أو عبر جسر الملك حسين، من خلال فلسطينيين وأردنيين بواسطة أشخاص ينظمون كل شيء بشكل مسبق؛ بما في ذلك تجنيد موظفين على الجانب الإسرائيلي من الحدود لتسهيل دخول الذهب".
وفيما يخص التهريب عبر مطار "بن غوريون"، فقد أعلنت الشرطة الإسرائيلية، مطلع عام 2023، عن إحباط محاولة تهريب 8.5 كيلوغرام من الذهب، تقدر قيمتها بأكثر من 1.5 مليون شيكل (نحو 430 ألف دولار أميركي)، واعتقال شابين مُشتبه فيهما من منطقة الجليل، بتهمة التهريب خلال عودتهما من تركيا إلى إسرائيل.
وفي حادثة أخرى في نيسان/أبريل 2022، أعلنت الشرطة وسلطة الضرائب في إسرائيل، عن إحباط محاولة تهريب 20 كيلوغراماً من الذهب، عن طريق مطار بن غوريون (يقع في مدينة اللد المحتلة عام 1948)، بقيمة ملايين الشواكل. واعتقلت الشرطة حينها ثلاثة أشخاص من القدس، بشبهة محاولتهم تهريب الذهب من تركيا.
وعلى الجانب الآخر، يوثّق التحقيق أربع حالات تهريب للذهب على الحدود الفلسطينية الأردنية، ضبط خلالها الأمن الأردني كميات من الذهب في الفترة بين عام 2019 و2022.
إحدى تلك الحالات تعود إلى عام 2016، حين ظهرت تفاصيلها في نص حكم صادر عن محكمة استئناف عمّان، وتتعلق بواقعة تهريب 22 سبيكة ذهب (كيلو لكل سبيكة)، و20 أونصة، من الأردن إلى الضفة الغربية عبر جسر الملك حسين، من خلال شاحنة لنقل الإسمنت.
وتكشّفت خيوط واقعة التهريب، حينما حدث خلاف بين صاحب كمية الذهب -الذي يعمل في مجال تصدير الإسمنت من الأردن إلى الضفة الغربية- والمُهرِّب، الذي يعمل سائق شاحنة نقل عبر الحدود.
القضية بتّ فيها القضاء الأردني، بعدما قررت النيابة العامة إحالة المشتكى عليهم (م.أ) وثلاثة آخرين إلى محكمة بداية جزاء غرب عمّان، لمحاكمتهم عن جرم "سوء الأمانة".
وخلصت النيابة إلى أن "المشتكي (م.م) يعمل في مجال تصدير الإسمنت، من خلال الشاحنات العائدة للمشتكى عليه (ب.ع) بمقابل أجر شهري. وكان المشتكي يطلب -بين الحين والآخر- من المُشتكى عليهم أن ينقلوا له سبائك ذهب إلى الضفة الغربية، من خلال شحنة الإسمنت مقابل أجر إضافي".
طلب المشتكي نقل كمية الذهب، من خلال وضعها وسط الشحنة، تمهيداً لإدخالها إلى الضفة. إلا أن المُشتكى عليهم، وبعد استلامهم الذهب، قاموا بإرسال شحنة الإسمنت فقط، واحتفظوا بالذهب، ثمّ باعوه لحسابهم الشخصي، واشتروا بثمنه عقارات ومركبات، وفق النيابة العامة.
قدّرت المحكمة قيمة الذهب المُهرَّب في هذه القضية (استناداً إلى الأسعار في 2016) بـ 667 ألف دينار أردني (940 ألف دولار أميركي). ويتضح من خلال تحليل إفادات أطراف القضية، أن عملية التهريب هذه لم تكن الأولى.
بالنزول إلى أسواق الذهب في مدن الضفة الغربية، التقت معدة التحقيق مجموعة من التجار والعاملين. لكنّ معظمهم رفض تسجيل المقابلات لدى سؤالهم عن أسماء التجار المسؤولين عن تزويد سوق الضفة الغربية بالذهب، وسط حالة من الخوف والتردد ظهرت على بعضهم.
ثلاثة عاملين فقط (من بين قرابة 20 عاملاً وتاجراً) وافقوا على التسجيل، شرط إخفاء هوياتهم؛ "تجنباً للمخاطر". وذكروا لنا قائمة -تضم خمسة تجار- تدير عملية تزويد السوق بالذهب. اتصلنا بثلاثة من هؤلاء التجار؛ اثنان منهم تهربا من الرد بداعي السفر المتكرر، فيما وصف الثالث السؤال -عما إذا كان يعمل في الذهب المُهرَّب- "بالشخصي"، وأضاف: "كيف بتسأليني سؤال شخصي كهذا… أشتري الذهب من التجار المحليين وأعيد تصنيعه كبقية التجار… كيف دخل؟ إحنا ما بنعرف".
نقلنا السؤال إلى رئيس الاتحاد الفلسطيني للمعادن الثمينة، محمد غازي الحرباوي، الذي امتنع عن ذكر أيّ أسماء، ورفض إطلاق وصف "التهريب" على العملية، قائلاً: "مَن يحضر الذهب يجب أن نكرمه؛ لأنه يدخل كنزاً لفلسطين... ونحن بحاجة إلى أن يكون لدينا احتياطي من الذهب".
اتفاق غير رسمي على التهريب!
منذ عام 1999، أصبحت عملية إدخال الذهب إلى الأراضي الفلسطينية تدار عبر اتفاق غير معلن، بين السلطة والتجار، وصفه الحرباوي بأنه "جنتل مان"، مفاده أن يقوم صاحب المصنع أو الصائغ بإحضار الذهب بطريقته الخاصة، وبعد تصنيعه يشترط حصوله على الدمغة الفلسطينية في مديريات المعادن الثمينة (تابعة لوزارة الاقتصاد)، وبالتالي يصبح ذهباً أبيض (قانونياً)، ويُعرض في الأسواق.
رئيس الاتحاد الفلسطيني للمعادن الثمينة محمد غازي الحرباوي
الاتفاق يعني -بنظر الحرباوي- أن الحكومة لا تستطيع التصريح بأن الذهب غير شرعي، لكنّها تغض الطرف لعدم استطاعتها تأمين الذهب، حسب المعمول به في دول العالم كافة، وفق الحرباوي.
لكنّ الحرباوي يصف عملية التهريب بالصعبة والمعقدة؛ فلا يتحمل تبعاتها إلا من يملك الأدوات الكافية: "يمكن لأي شخص لديه علاقات مع ذوي الامتيازات، (الذين يدخلون عبر معبر الكرامة - الحدود الفلسطينية الأردنية) من دون تفتيش، أن يُعرض عليه إدخال الذهب، وغالباً لا أحد يقول لا.. هي هيك".
ويؤكد حديث الحرباوي، يعقوب شاهين، المسؤول السابق لمديرية المعادن الثمينة بالضفة الغربية: "البعثات الدبلوماسية عن طريق اليهود المتدينين وحملة بطاقات الـ vip، هم الوسيط الذي يُدخِل الذهب تهريباً إلى فلسطين؛ فالذهب صغير الحجم ويمكن حمله بسهولة، لهذا السبب لا يمكن السيطرة على دخوله".
في محاولة لتتبع سير شحنة من الذهب في طريقها من الأردن إلى فلسطين، وثّق التحقيق حادثة تهريب ثانية تابعتها محكمة الجمارك البدائية الأردنية (الدعوى رقم 379/2019). وفي تفاصيل ملف الدعوى، تبيّن أن الموظف بالسفارة الأردنية في إسرائيل (أ.ا)، حمل معه يوم 5 آذار/مارس 2016، شحنة تزن 20 كيلوغراماً من الذهب، منها 19 سبيكة وكيلو ذهب مشغول، بالإضافة إلى 310 أجهزة خلوية، وخبأها في صندوق أسفل مركبته، التي تعبر جسر الملك حسين بسهولة، وصولاً لنقطة التفتيش الإسرائيلية، التي قررت بدورها تفتيش هذه المركبة، فوجدت الذهب المُهرّب.
أبلغ الجانب الإسرائيلي السفارة الأردنية، التي أرسلت مندوباً لمتابعة الواقعة، وفق تفاصيل قرار محكمة الجمارك البدائية الأردنية عام 2019. أدانت بعدها المحكمة موظف السفارة بجرم التهرب الجمركي، خلافاً لأحكام قانون الجمارك في المملكة، علماً بأن القرار قابل للاستئناف.
قضية موظف السفارة الأردنية لم تكن الوحيدة، فقد سبقتها حادثة ضبط 152 كيلوغراماً من الذهب في سيارة القنصلية الفرنسية، وذلك أثناء مرورها عند النقطة الإسرائيلية من الحدود مع الأردن عام 2013. وقد اعترف سائق السيارة بتهريب الذهب والتبغ وشيكات نقدية.
يقول تاجر ذهب من رام الله، "أطلقنا عليه الاسم المستعار سامر فيصل"، إن تهريب الذهب يتمّ بالأساس عبر دبلوماسيين لا يتمّ تفتيشهم عبر نقاط المعابر الأردنية والإسرائيلية، وهم يتمتعون بخدمة الـ VIP عبر الشقين الإسرائيلي والفلسطيني، سواء عبر الجسر (الحدود الأردنية) أو المطار (بن غوريون)".
وأشار فيصل إلى أن أيّ سيارة لا يتمّ تفتيشها عبر الحدود، يمكن أن تكون قناة للتهريب؛ "لأن هؤلاء يتقاضون مبلغ خمسة آلاف دولار أميركي عن كل كيلو ذهب يقومون بإدخاله، وفي حال ضُبط ما يتمّ تهريبه، تُلقى المسؤولية على سائق المركبة باتفاق مسبق".
ومن الأردن، أشار عبد النابلسي، صاحب محل للمجوهرات في وسط عمّان (عضو هيئة إدارية في النقابة العامة لأصحاب محلات تجارة وصياغة الحلي والمجوهرات)، إلى أن المهربين ينتمون غالباً لفئة الدبلوماسيين. وأضاف: "ليس شرطاً أن جميعهم يعملون بهذا العمل (التهريب)، لكنّ جزءاً منهم يعملون في المجال، وهذا يسيء للدولة التي ينتمي لها هذا المسؤول".
عبد النابلسي صاحب محل مجوهرات النابلسي سوق الذهب وسط البلد عمان
عملية تهريب الذهب مُنظّمة ومُمنهجة؛ تبدأ من مُصدّري الذهب من الدول المجاورة -الذين ينظمون سير وصول الذهب ومروره عبر المعابر الحدودية- وصولاً لتجار فلسطينيين يسيطرون على هذا السوق، وفقاً لما أشارت إليه المصادر الموثوقة.
تبيّن الوثائق، التي حصلنا عليها من موقع "قسطاس"، تكرار أسماء أشخاص من الأردن اتهموا بتهريب الذهب من الأردن إلى فلسطين.
ووثّق التحقيق تكرار اسم (م.أ) في عمليتي تهريب منفصلتين خلال عامين مختلفين. ففي 2021، كان شاهداً على ملكية شريكه للذهب المُهرّب، الذي تمّ ضبطه على الحدود الأردنية (سبيكتان عيار 24، وزن كل واحدة ألف غرام). وفي القضية الثانية عام 2022، كان (م.أ) قد طلب من شخص آخر نقل نحو 67 كيلوغراماً من الذهب (موزعة بين سبائك وليرات وذهب كسر)، مقابل مبلغ مالي، بحسب محضر المحكمة.
تكمن المفارقة في أن السلطة الفلسطينية "تُشرعن" الذهب المُهرّب، وفي المقابل تعلن بين الحين والآخر عن إجراءات لمحاربة التهريب. تدمغ وزارة الاقتصاد الفلسطينية أطناناً من الذهب سنوياً، عبر مديرية المعادن الثمينة، مقابل ضريبة قدرها "شيكل واحد" عن كل غرام. ففي 2022 مثلاً، بلغت الإيرادات 17.6 مليون شيكل (نحو 4.8 مليون دولار أميركي)، عن دمغ نحو 18 طن ذهب.
يقول عادل عزوني، مدير الإدارة العامة التابعة لوزارة الاقتصاد، إن وزارته مضطرة إلى دمغ الذهب، الذي يدخل بطرق غير رسمية؛ نظراً لعدم سيطرة السلطة الفلسطينية على المعابر، وعدم وجود جهة مُنظِّمة لجلب الذهب الخام، وإعادة تصنيعه وتشكيله.
وأضاف عزوني أن دور مديرية المعادن الثمينة، يتمحور حول الدمغ والفحص والمراقبة، بموجب القانون رقم 5 لسنة 1998… ولم يتطرق القانون لكيفية جلب الذهب، ولا للجهة التي تحدد سعره.
عادل عزوني - مدير مديرية المعادن الثمينة
إلا أن الحكومة الفلسطينية أظهرت تناقضاً لما تقوم به الإدارة العامة للمعادن الثمينة؛ فقد أصدرت في اجتماعها (رقم 131 بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2021) قراراً بما وصفته "محاربة تهريب الذهب عبر الجسور"، لأنه يضر بالاقتصاد الوطني، وفق قرار الحكومة.
كما أن معدة التحقيق اطلعت على قرار مجلس الوزراء، في جلسته المنعقدة في رام الله بتاريخ 10 نيسان/أبريل 2023، الذي ينص على "تعزيز جهد الحكومة في مكافحة قضايا التهريب، ومنها تهريب الذهب وما يترتب على ذلك من خسائر لاقتصادنا الوطني".
ونص القرار -الذي لم ينشر على موقع مجلس الوزراء الفلسطيني- على "تكليف وزارتي المالية والاقتصاد الوطني، وسلطة النقد، بوضع تصور لمحاربة هذه الظاهرة، على أن يتمّ تقديم المقترح بما قد يشمل إنشاء شركة حكومية للاستيراد، خلال فترة لا تتعدى شهراً".
وحتى تاريخ نشر التحقيق، لم يصدر أيّ قرار حكومي يتعلق بإنشاء الشركة الحكومية الخاصة باستيراد الذهب.
في الوقت الذي تصدر فيه الحكومة قرارات لمحاربة تهريب الذهب، بدا جهاز الضابطة الجمركية -الجهة المسؤولة عن إنفاذ القانون فيما يتعلق بجرم التهريب- غائباً عن المشهد.
تفاجأ مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام بجهاز الضابطة الجمركية، إبراهيم عياش، بالمعلومة قائلاً: "كل الذهب الموجود بالبلد مهرب! كيف؟ أول مرة أسمع بذلك!".
ما أعرفه -يقول عياش- أن "تجار الذهب هم مَن يستوردونه أو يبيعونه، وفي معامل مرخصة يُصنع الذهب (...) لم تمر عليّ معلومة الذهب يدخل عنا تهريباً".
وأضاف عياش أنه ليس مثبتاً لدى الضابطة الجمركية أن كل الذهب الداخل إلى البلاد مهرب؛ إذ توجد محلات مصرح لها بإدخاله، والأسماء لدى وزارة الاقتصاد، وفق تعبيره.
لكنّ الإدارة العامة للمعادن الثمينة قالت إن ما لديها هو قائمة بأسماء التجار والصاغة العاملين في سوق الذهب فقط، وزودتنا بأعداد التجار ومشاغل الذهب وتوزيعها الجغرافي في مدن الضفة الغربية.
بموجب "بروتوكول باريس"، المُوقَّع بين السلطة وإسرائيل عام 1994، والمُنظِّم للعلاقة الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية، فإن "احتياطيات السلطة الفلسطينية من العملة الأجنبية (وضمنها الذهب) وهيئات القطاع العام الفلسطيني، تُودع لدى سلطة النقد وتدار من قبلها".
لكنّ سلطة النقد لم تقم بهذا الدور، وفق ردها على استفسارات معدة التحقيق: "لم يسبق لأيّ من المؤسسات والهيئات الحكومية في دولة فلسطين أن قامت بالاحتفاظ بأيّ أصل على شكل ذهب؛ إذ إن جميع الذهب الموجود في المناطق الفلسطينية لا تعود ملكيته للدولة/ الحكومة أو أيّ من مؤسساتها، بل تعود ملكيته للقطاع الخاص (الأفراد والأسر ومشاغل ومصانع ومحلات الذهب والمجوهرات)".
وتابعت سلطة النقد بالقول: "لم يسبق للجانب الفلسطيني الرسمي أن بادر إلى استيراد الذهب من الخارج، سواء لأغراض الحيازة والاستثمار أو حتى للأغراض التجارية، خاصة أنه لا توجد آلية رسمية معتمدة لتنظيم عملية استيراد الذهب من الخارج، سواء على هيئة سبائك أو مصوغات ذهبية".
رد سلطة النقد لم يحتوِ على أيّ تفاصيل بشأن قرار مجلس الوزراء، في جلسة 10 نيسان/أبريل 2023، رغم أن القرار أشار إلى دورها بوضوح في مسألة تقديم مقترح لوقف ظاهرة التهريب.
هناك عدة طرق أو قنوات يتم من خلالها دخول الذهب إلى الأراضي الفلسطينية، والتهريب هو أحد هذه الطرق المتاحة أمام مصانع ومشاغل الذهب في فلسطين لتلبية احتياجاتها، بشكل كلي أو جزئي، وأغلب عمليات التهريب تتم من خلال إسرائيل، التي توجد فيها كميات كبيرة من السبائك الذهبية المنتشرة في السوق السوداء.
ويعزى انتشار تهريب الذهب بشكل أساسي إلى عامل "فرق السعر"، أي أن استيراد الذهب من الخارج يعني إضافة ضريبة قيمة مضافة من قبل الجانب الإسرائيلي على المصوغات الذهبية المستوردة، الأمر الذي يجعل من التهريب بديلاً أفضل بالنسبة لبعض تجار الذهب، كونه أسرع وأقل كلفة، وبالتالي الأجدى لتجارتهم، ولأسعار الذهب في السوق الفلسطيني.
وسلطة النقد على قناعة بأن عملية تهريب الذهب لا يمكن أن تشكل أساساً راسخاً لتجارة قانونية تلبي حاجة السوق المحلي، ولا تسهم بشكل فعال في تطوير سوق الذهب الفلسطيني. كما أن التهريب يُعدّ من الجرائم الأصيلة التي نص عليها قانون مكافحة غسل الأموال الفلسطيني، وأن الأموال المتحصلة من خلالها تُعدّ أموالاً غير مشروعة، ومحلاً لجريمة غسل الأموال.
لذا، هناك حوار بين سلطة النقد، ووزارة المالية، ووزارة الاقتصاد الوطني، من أجل تنظيم سوق الذهب ورؤية أفضل الطرق لاستيراد الذهب.
يُحمّل رئيس الاتحاد الفلسطيني للمعادن الثمينة، محمد غازي الحرباوي، وزارة المالية جزءاً من مسؤولية ملف تهريب الذهب؛ بسبب عدم كفاءة نظام الاسترداد الضريبي للتجار، الذي يستغرق الحصول عليه (الرديات) سنوات، وفق الحرباوي.
بدورها، رفضت وزارة المالية التعليق على الموضوع بداعي أنه "تخصص وزارة الاقتصاد بشكل عملي".
في الوقت ذاته، أوضح يعقوب شاهين أن الإدارة العامة للمعادن الثمينة شكّلت لجاناً فنية ووزارية؛ لحل مشكلة الذهب المُهرَّب منذ 20 عاماً، على أن تتولى أيّ جهة رسمية أو بنك أو شركة عملية استيراد الذهب، وأن تقوم وزارة المالية برد العائدات الضريبية، لكن لم يتمّ اتخاذ أيّ قرار في هذا الشأن، وفق قوله.
من جانب آخر، يقول أحمد القواسمي، رئيس ملتقى رجال الأعمال، عضو مجلس إدارة اتحاد المعادن الثمينة (لديه مشغل ذهب) إن الاتحاد طالب عشرات المرات بضرورة جلب الذهب بطريقة شرعية، وإيجاد آلية لإرجاع ضريبة القيمة المضافة، التي يتمّ دفعها، أو أن يتمّ إعفاء الذهب من الضريبة؛ خاصة أن إدخال الذهب بطريقة غير شرعية يحرم هذا القطاع من تصديره أيضاً.
حل "هذه المشكلة" بنظر القواسمي ليس صعباً، وقد يتمّ باتفاقية على غرار السيارات المستوردة، التي تُدفع جماركها مباشرة إلى خزينة السلطة، بعيداً عن المقاصة (ضرائب على السلع المستوردة تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية، مقابل عمولة ثلاثة في المئة بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي). وأضاف القواسمي: "الأمر ليس صعباً لو أرادت السلطة أن تجد له حلاً".
سامر فيصل (اسم مستعار)، تاجر ذهب، يقول إن سوق الذهب الفلسطيني بات تحت سيطرة بضعة تجار: "يجلبون الذهب ويفرضون على التجار الأسعار؛ ما يجعل سعر الذهب في فلسطين مختلفاً وغير حقيقي".
يعقوب شاهين، المدير السابق لمديرية المعادن الثمينة، يتفق تماماً مع هذا الأمر بالقول: "تهريب الذهب وشرعنته، وضع السوق المحلي تحت سيطرة المهربين، من حيث العرض والطلب والسعر؛ إذ يتحكمون بالأسعار ويفرضونها على الجميع، وهذا السعر يكون مرتفعاً بنحو 40 إلى 200 دولار على الأقل، عن سعر الأونصة العالمي، والمستهلك الفلسطيني هو من يتحمل هذا الفرق، ويدفعه من دون أيّ حسيب أو رقيب".
فارق السعر هذا، وثّقته معدة التحقيق على مدار أربعة أيام في شهري نيسان/أبريل وأياّر/مايو 2023. وتبيّن أن فرق السعر يتراوح ما بين 100 إلى 220 دولاراً في سعر الأونصة السويسرية (عينة)، مقارنة بالسعر العالمي.
الفرق في السعر يُطلق عليه في عالم المهربين بـ "حق الخط"؛ وهو ما يوضحه طارق عبد الله (اسم مستعار)، عامل في القطاع، إذ يقول: "عندما تصل البضاعة، لا نشتريها كما هي بالسعر العالمي؛ بل يُضاف إليها مبلغ آخر، يسمى بحق الخط (خط وصول الذهب)، الذي يُطعم الأردنيين والفلسطينيين والإسرائيليين حصة الثلث، في حين يحصل التجار على الثلثين، وفي كل الأحوال، فإن هذه التكلفة يتحملها المستهلك".
أُنجز هذا التحقيق بدعم من أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)